مسلسل مكسيكي اسمه «نشرة الأخبار»!

من قسم شؤون إعلامية
الإثنين 28 أغسطس 2006|

هناك أوجه شبه متعددة بين الدراما ونشرة الأخبار التي صارت تمثل إدمانا يوميا لنسبة عالية من سكان العالم العربي حيث في كل يوم حدث جديد ومآس متجددة.

الدراما فيها عقدة وحل، خير وشر، هزيمة وانتصار، دموع وفرح، قوي وضعيف، ونشرة الأخبار تطورت عبر الأيام على شاشة التلفزيون وفي عقولنا حتى أصبحت مثل الدراما، ولهذا حسبما يوضح عدد كبير من الدراسات الغربية آثاره السلبية العميقة على فهمنا للأحداث من حولنا.

تقول الدراسات إنه عندما نتسمر أمام شاشة التلفزيون وبيدنا “الريموت كنترول” ونبدأ نقلب القنوات وتأتينا نشرة الأخبار وبعدها مباراة كرة القدم ثم المسلسل الدرامي تتماهى هذه الأمور في عقولنا فنفقد التمييز بينها وتصبح جميعها بالنسبة لنا مجرد صور ذات تأثير محدود في مختلف مراكز الوعي والإدراك لدينا، وهذا في رأي الباحثين الغربيين خطير جدا لأنه يعني ثلاثة أمور مهمة:

  • الأول، أننا بذلك نفقد الحساسية اللازمة لفهم معنى الأخبار وخطورتها وبعدها الإنساني علينا، وربما كان هذا منطبقا على الغرب أكثر حيث يشاهدون على شاشة التلفزيون أخبار المآسي التي تحصل للشعوب الأخرى، ويحتاج منهم الأمر جهدا للتفاعل معها بخلافنا في العالم العربي حيث تحصل الأحداث في ساحة المنزل الخلفية.
  • الثاني، وهو الأهم، أننا نبدأ في تحويل كل الأحداث السياسية من حولنا لما يشبه الدراما، نتوقع دائما أن تكون هناك عقدة معينة في الحكاية وننتظر نتيجة معينة في الصراع بين الخير والشر، وهذا يعني أننا دائما نبحث في القصة عن أبطال ونجوم وعن أشرار، كما نبحث عن منتصر ومنهزم.

أمر آخر مهم جدا في التعامل مع الأخبار على أنها دراما وهو أننا عادة في الدراما نحكم عواطفنا بدلا من عقولنا، ويصبح لدينا الميل نفسه في نشرة الأخبار حيث نسعى لتحكيم عواطفنا بدلا من عقولنا، ننتظر أن تنطلق صرخات الفرح أو دموع الحزن.

  • الثالث، وهو مهم أيضا، هو أننا ننظر للأخبار على أنها حلقة من مسلسل طويل على نمط المسلسلات المكسيكية، فاليوم هزم البطل ومات عشرة أشخاص وغدا قد يحصل جديد وينتصر البطل من جديد، ثم اليوم الذي بعده يأتي بطل آخر فيكشف فضائح البطل السابق التي لم يعرفها المشاهدون، وهكذا تتمدد المتعة مع الأيام.

بكلمات أخرى، هذا يعني أنه في الأخبار كما في المسلسلات الطويلة لا توجد حلقة أخيرة، ودائما من الممكن أن تتغير الأحداث لينتصر البطل بعد هزيمته، وكل الصدف يمكن أن تحصل فتغير مجرى الأحداث في حلقة واحدة، وهناك دائما يوم غد الذي يمكن أن تتحول فيه الأحداث.

النتيجة هي مشاهد غير عقلاني لأن المنطق أن الصدفة نادرة جدا، وأن ما يحصل لا بد أن يترك آثاره السلبية والإيجابية دون خط رجعة في غالب الأحيان.

أعتقد أن هذه الملاحظات جزء من الحياة اليومية لمعظم الناس، ولعلك دائما تلاحظ أن تفاعل الناس مع الأخبار عاطفي وليس عقلاني لأنهم يتعاملون معها كدراما تلفزيونية، ولذلك تجد الشخص متحمسا أو غاضبا ويطلق عبارات عاطفية بحتة في تحليله لحدث معين ثم عندما تبدأ معه ببعض الأسئلة العقلانية السهلة تجد موقفه بدأ يتحول بسرعة، وذلك ببساطة لأن معظم الناس يعطلون عقولهم ويشغلون عواطفهم عندما يكونوا أمام شاشة التلفزيون أيا كان المحتوى الذي تقدمه الشاشة.

لقد علمتنا “مدرسة التلفزيون” التي ربتنا منذ طفولتنا هذا الشعور بالدراما في التعامل مع الأحداث من حولنا، وانتقل هذا الشعور إلى تفكيرنا بشكل عام حول السياسة والعالم والآخرين والقضايا، ولم تقتصر آثاره على جلستنا أمام شاشة التلفزيون الساحرة، بل صار ذلك جزءا من تفكيرنا.

الإنترنت جاء بعد ذلك بلمسته الخاصة، حيث صار الناس يقرؤون الأخبار من خلال المنتديات أو يقرؤونها ومعها تعليقات الآخرين عليها مما يعني أن تقرأ أيضا تفاعل الناس العاطفي معها فصار الناس يدخلون في بعد عاطفي جديد، الأحداث وضجيج الآخرين حولها.

بالنسبة للعالم الأمريكي في جامعة تكساس الذي ألف كتاب “إغراء أمريكا” Seducing America، ولعدد كبير آخر من الباحثين الذين تناولوا هذه القضية هناك حلول عديدة لهذه المشكلة الغريبة التي تؤثر بعمق في حياتنا دون أن ينتبه أحد لها، ومن هذه الحلول إعادة صياغة الأخبار بحيث تخرج عن الإطار الدرامي وتهرب من وجود بطل وعقدة ونتيجة، وأن تكون فقرات عديدة في الأخبار لا ارتباط لها بالحدث بقدر ما هي تناقش قضية ما بعمق، وهناك تجارب حول الأثر الإيجابي لمنع مشاهدة الأخبار ومشاهدة برامج درامية بعدها أو قبلها، ولكنها حلول غير عملية، لأن شاشات التلفزيون تبحث عن أكبر عدد من المشاهدين الذين سيهربون _ لو تغير نمط الأخبار _ إلى محطة أخرى، ولأن الناس سيستمرون في مشاهدة الأخبار بطريقتهم المعتادة وهم يمسكون بالريموت كنترول.

بينما يبقى البحث جاريا عن حل في الغرب، أعتقد أن الوقت حان لباحثي الإعلام لدينا للسعي لاستكشاف هذه المشكلة وتطبيقاتها في العالم العربي، لأنه من الواضح أن ظاهرة مثل هذه قد تشارك بشكل كبير في طريقة التفكير الغريبة والعاطفية السائدة لدينا حول الأحداث من حولنا، ولك إن شئت من اليوم وصاعدا أن تتابع كيف يتعامل الناس مع الأخبار وكأنها رواية لأجاثا كريستي، أو فيلم كاوبوي قديم، وأظن أنك ستفاجأ بالنتيجة.

نحتاج إلى المنطق بينما نحن “دراميون”، وربما كان التلفزيون هو السبب!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية