اشتهرت مجلة “تايم” الأمريكية العريقة بزاوية لطيفة بعنوان “الفائزون والخاسرون هذا الأسبوع”، وتتناول هذه الزاوية ثلاثة أشخاص نجحوا في ذلك الأسبوع في تحقيق إنجازات أيا كان نوعها، بينما أخفق الأشخاص الثلاثة الآخرين في أحد اختبارات الحياة اليومية.
القائمة تتضمن عادة أشخاص تسلط عليهم الضوء الإعلامي ذلك الأسبوع بسبب نجاحهم أو فشلهم، ومما يلفت النظر في هذه الزاوية أنك تجد أحد الأشخاص فائزا هذا الأسبوع وخاسرا في الأسبوع التالي، وذلك لأن الاجتهادات اليومية لهؤلاء المشاهير تصيب أحيانا وتخفق أحيانا أخرى.
ولعل طبيعة الإنسان عموما تجعله يكره أن يكون على قائمة الخاسرين ويراها إساءة له، ولكن المؤكد أن الكثير من المجتمعات ومنها المجتمع الأمريكي استطاعت أن تتعامل مع الخسارة على أنها “اجتهاد خاطئ” وتدل في النهاية على أن صاحب الخسارة قد بذل جهده وأخذ المخاطرة، ولكنه فشل في تحقيق ما يريده بناء على عوامل كثيرة.
هذه الثقافة التي تعترف بالفشل كنتيجة ممكنة لكل محاولة هي نفسها الثقافة التي يمكنها أن تشجع الإبداع ومحاولة علاج المشكلات بلا خوف من الفكرة الجديدة، وهي الثقافة التي ساهمت في نمو هذه “المجتمعات الإبداعية” ووضعها على القمة في سباق الأمم.
إن الفكرة التي تستقر في أذهان الغربيين منذ طفولتهم تقوم على أساس أنه لا نجاح ممكن بدون أن تحاول، ولكن لا بد دائما من توقع الفشل أو النجاح في كل محاولة، وأظن أن هذا أصبح بديهيا لمن يتابع الآلية الاجتماعية للكثير من المجتمعات الغربية التي “تقدس” الفكرة الجديدة سواء فشلت أم نجحت.
هذا طبعا مخالف تماما لما يحصل في مجتمعات كثيرة أخرى ومنها المجتمعات العربية والتي تهتم بـ”حفظ ماء الوجه” أكثر من الاهتمام بقيمة الفكرة نفسها، ويصبح الشخص “حساسا” تجاه أي نقد، الأمر الذي يعطل العملية الإبداعية والنقد الذاتي وبالتالي العملية التطويرية التي تمضي عادة ببطء لأنها تحاول دائما الالتفاف حول قضية جرح مشاعر الذين تفشل أفكارهم.
هذه الثقافة الإبداعية والإيمان بـ”الخروج من الصندوق” تسللت إلى كل مؤسسات المجتمع الغربي بما في ذلك الأسرة والمدرسة والمؤسسة الحكومية والشركات والمؤسسة الثقافية والفكرية، وصار هذا مثل “الهوس” الذي يجتاح الجميع، بينما لدينا “هوس” من نوع آخر بحفظ “برستيج” الشخص أو المؤسسة حتى لو كان هذا معناه توقف العملية الإبداعية لأن أحدا لن يغامر بأن يلقب بـ”الفاشل”.
والحل لهذه الثقافة “المعوقة” يبدأ من المدارس التي يفترض أن تتبني مناهج وتمارين تشجع الطلاب على الإبداع، وتجعلهم يتعاملون مع الخطأ على أنه مجرد فكرة غير ناجحة تمهد لفكرة أكثر نجاحا، وبين يدي الآن كتاب أمريكي يتضمن 101 تمرين للوصول لهذا الهدف.
بعض الدول التي تعاني من مشكلة “حفظ ماء الوجه” face-saving _ والتي رصدها الغربيون في دراساتهم باستغراب _ مثل سنغافورة اعتمدت برامج لنشر ثقافة “حل المشكلات الإبداعية” والتي أسست على قواعد بسيطة يمكن تعلمها وتطبيقها بسرعة وتبني القيم المرتبطة بها تدريجيا.
كلنا خاسرون هذا الأسبوع، لأن الذين نجحوا من بيننا تحقق نجاحهم لالتزامهم بالإطار العام وعدم خروجهم عن النسق وقدرتهم على بناء البرستيج الذي لم ترتبط به قصة إخقاف، كلنا خاسرون وبيننا مئات الآلاف من المبدعين الذين ينتظرون منا الإشارة لتنطلق مواهبهم وليقودوا عملية تطوير حقيقية، لهؤلاء تقديري العميق وتعاطفي مع معاناتهم الحزينة.
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية