أيهما أهم الذكاء أم الإبداع؟

من قسم منوعات
الخميس 28 ديسمبر 2006|

السؤال أعلاه هو سؤال جوهري جدا للعملية التعليمية وللآباء الذين يهتمون بتربية أبناءهم وللشركات التي تريد تطوير نفسها.

وللإجابة عليه أحب أن أشرح بتبسيط كبير نظرية علمية كنت قد عملت على تطويرها قبل سنوات لمعالجة هذه القضية.

كل أمة من الأمم لديها ما يسمى بـ”الثقافة التعليمية” وهي تمثل كيف ينظر المجتمع للتعليم، وعناصر عملية التعليم، والمعلم، وأهداف التعليم، ووسائله، والثقافة التعليمية طبعا هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع.

في رأيي الشخصي، يمكن تقسيم الثفافة التعليمية إلى قسمين:

ثقافة الذكاء وثقافة الإبداع، أي أننا يمكن أن نقسم الأمم إلى قسمين، قسم يميل إلى تقدير الذكاء كعامل حيوي في تقييم جودة التعليم، بينما يميل القسم الآخر إلى اعتبار الإبداع أكثر أهمية من الذكاء.

 في ثقافة الذكاء يكون هناك تركيز عال على مدى قدرة الطالب المعلوماتية والمعرفية وقدرته على التعامل مع مسائل الرياضيات والفيزياء وغيرها وقدرته على “فصفصة” المناهج الدراسية وإدراك عميقها والخفي منها.

في ثقافة الذكاء يكون “الذكي” هو المقدر والمتفوق في المؤسسات التعليمية وأحيانا في المؤسسات الاجتماعية على اختلافها.

تجد هذا النموذج في دول آسيا عموما بما فيها الدول المتقدمة كما تجده في جميع الدول العربية مع التفاوت في المناهج المتبعة لتحقيق ذلك وفعاليتها.

أما ثقافة الإبداع فهي معنية بمدى قدرة الطالب على الإتيان بالجديد المميز.

في هذه الحال تتغاضى المؤسسات التعليمية عن إتقان الطالب للعلوم مقابل تشجيعها الواسع لقدرته على الإبداع والتجديد والإتيان بالرأي الخاص غير المسبوق كما تشجع اختلاف الآراء وتنوعها ولا تحاول رفض الرأي الغريب غير المتعود عليه.

هذا النوع من الثقافة شائع في بعض دول أوروبا وخاصة منها الدول الاسنكندنافية كما أنه الأصل المتبع في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا.

ولا يمكن بحال الإدعاء أن أحد الثقافتين أفضل من الآخر، فكلاهما له سلبياته وإيجابياته، ولعل النموذج الأمثل هي ثقافة معتدلة في الوسط لها إيجابيات ثقافة الإبداع وثقافة الذكاء في آن واحد.

المشكلة التي تقف في وجه خلق الثقافة المعتدلة أو التحول للثقافة الأخرى أن “الثقافة” تقوم عادة على معتقدات ووجهات نظر ترسبت في النفوس على مر السنين ويصعب تغييرها، ولذا فإن كل المحاولات السطحية التي حاولت التقليل من حجم التلقين في نظام المدارس العربية باءت بالفشل الذريع لأنها تحاول أن تقول للمجتمع أن الطفل الذكي الذي يحفظ كل المعلومات ليس متفوقا حقا، وهذا يخالف ما يؤمن به الناس ويشد إعجابهم نحو الأطفال في العالم العربي منذ أمد بعيد حين كان “الحافظ” والرجل الموسوعي مثيرا لإعجاب الناس وتقديرهم.

هناك أدلة كثيرة جدا تثبت أن الطفل بحاجة أكثر للإبداع منه إلى الذكاء، وهذا يندرج إلى الأمم، فمثلا تتجه القطاعات الاقتصادية على اختلاف أنواعها وفي مختلف أنحاء العالم لتقدير الإبداع والفكرة الجديدة، بدلا من تقدير الذكاء في العمل، وذلك ببساطة لأن الإنتاج المتقن للعمل صار سهلا في ظل التطور التكنولوجي والاتصالي ووجود معايير العمل، بينما يبقى التفوق في المنافسة للشركة التي استطاعت طرح أفكار جديدة وتسويقها عالميا. 

نحتاج لمبادرات ضخمة لإجراء تحويل اجتماعي عام نحو “ثقافة الإبداع”، تحويل يبدأ من العملية التعليمية، إلى تغيير مفاهيم الآباء والشركات والجامعات، إلى مختلف قطاعات المجتمع. بمعنى آخر نحتاج لتحول من الاهتمام بـ”النابغين” إلى “المبدعين”، ومن “التلقين” وحتى “الفهم” إلى “الابتكار”، ومن التركيز الهائل على الاختبارات إلى المعارض المدرسية للأفكار على أنواعها.

الإبداع يجعل الحياة مليئة بالحيوية وسحر الاختراع، ومجتمعاتنا بحاجة للكثير جدا من هذا السحر..

* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية