قبل حوالي سبعة سنوات، ولدت في أمريكا ظاهرة اسمها “ابن الرومي”، وذلك حين أصبحت دواوين شاعر القرن الثامن الهجري جلال الدين بن الرومي “أكثر دواوين الشعر مبيعا في أمريكا” حسب ما أعلنته صحيفة «ببليشر ويكلي» الأسبوعية أشهر مطبوعة أمريكية في تقويم الكتب والإصدارات، وذلك بعد أن باع ديوانه المعنون باسم “الرومي الأساسي” أكثر من 110,000 نسخة خلال ثلاث سنوات.
هذا النجاح الخارق للديوان شجع دور النشر الأخرى على إصدار 30 ديوانا آخر للرومي احتلت معظهما قوائم المبيعات الممتازة لدواوين الشعر التي تصدر أسبوعيا.
لا تتوقع أن تكون البداية من أي من أبطال العرب المحبين لثقافتهم، بل بدأت على يد كوليمان باركس، أستاذ الشعر بجامعة جورجيا، والذي اكتشف ابن الرومي وترجم له 14 كتابا وكون من وراءه بسبب الكتب وأشرطة الكاسيت وأشرطة الفيديو والأقرصة المدمجة التي حصل لها نفس الانتشار ثروة هائلة ..!.
باركس، يقوم بترجمة شعر ابن الرومي والمكتوب أصلا باللغة الفارسية إلى الإنجليزية مستعملا الأوزان الحرة، وهو يقول عن ترجمته بأنها «مكثفة كما يكتب والت وايتمان، ودقيقة كما يكتب إميلي ديكنسون».
الرومي خرج فجأة على المجتمع الأمريكي كشاعر مجهول حصل على جائزة نوبل.
كل الصحف الأمريكية الكبري بلا استثناء، بما فيها «وال ستريت جورنال»، أوسع الصحف الاقتصادية توزيعا في أمريكا، و«الواشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»، أوسع الصحف السياسية انتشارا، كتبت مقالات مطولة عن ظاهرة ابن الرومي وعن حياته وشعره وحتى عن أصله الأفغاني ومدينته الصغيرة «كونيا» بتركيا التي نشأ وتوفي بها.
محاضرات صارت تقام في مختلف الأوساط الأكاديمية والثقافية عن ظاهرة الرومي وشعره الساحر، بما فيها محاضرة ألقاها في نيويورك، ريتشارد بتلر، كبير مفتشي الأمم المتحدة في العراق في ذلك الوقت، والذي كان أستاذا جامعيا في أستراليا للأدب الشرقي قبل أن يصبح سفيرا.
العديد من الكتب ظهرت عن حياة وفلسفة ابن الرومي وأشهرها للكاتب البريطاني نيجيل واتس والذي كتب سيرة ابن الرومي وتأملاته فيها باسم «طريق الحب».
تجاوز شعر ابن الرومي كل الآفاق الممكنة لديوان شعر في المجتمع الأمريكي.
في عرض شهير للأزياء في نيويورك العام الماضي تم استعمال شعر الرومي في الحب والعشق العفيف كخلفية موسيقية أثناء العرض الذي حضره عدد من مشاهير هوليوود، وقد تعجب أن القرص المدمج واسمه «قصائد حب للرومي» انطلقت قصائده مقروءة على لسان المغنية الأمريكية مادونا، والممثلتين الشهيرتين ديمي مور، وجولدي هاون، بالإضافة لمترجم الشعر كوليمان باركس، ووضع الموسيقى الخلفية لها الموسيقي الأمريكي الشهير فيليب جلاس.
كان كل من قرأ واستمع لابن الرومي يعبر عن دهشته من هذا التمازج الراقي والساحر للعشق مع الرقة مع الخمريات مع السمو الفضائي الذي لم يعهد الشعر الأمريكي مثله أبدا.
دونا كاران، صاحبة عرض الأزياء الذي استضاف شعر الرومي، وهي إحدى شهيرات المصمات في عالم الأزياء بنيويورك، تعرض يوميا لشعر الرومي على شاشات تلفزيون ضخمة في البوتيك الخاص بها، وهي تؤكد أن هذا الشعر هو خير طريقة لتسويق الملابس الذي صممت معظمها «لسهرات رومانسية لايصفها أحد كما يصفها ابن الرومي».
إحدى الشركات الصانعة لآلة الجيتار الموسيقية قررت حفر أبيات لابن الرومي على صناديق الجيتار التي تنتجها.
الموسيقار فيليب جلاس، قام بجولة على 24 مدينة أمريكية قدم فيها شعر ابن الرومي مع عرض الأبعاد لفيلم يصور الأبعاد التجريدية للقصائد التي سماها جلاس «قوى الرحمة».
عشرات القصص الأخرى التي جمعتها ولا يتسع المقام لها هنا توضح كيف استطاع هذا الرجل القادم عبر العصور أن يكون سفيرا مدهشا لثقافتنا في الغرب.
لقد توهمنا أن “موت” الشعر في بلادنا يعني موت الشعر في كافة بلاد العالم، والحق أن الشعر والأدب، كما هو معلوم لكل متابع، يتدفق بقوة في معظم بلاد العالم، وله مكانته، ولدينا الكثير لنقدمه لثقافات العالم من حولنا ولنؤثر فيها لو نقلنا روائع الشعر العربي والإسلامي إليها.
إن تكاليف مثل هذا العمل المادية أقل بكثير من أي حملة علاقات عامة تنفق عليها السفارات العربية في أمريكا، وهي ذات أثر عميق وواسع ولا يبلى عبر الزمن.
ليس هذا فحسب. هناك شعراء عرب نجحوا أن يصبحوا أساسا في النسيج الشعري في أمريكا.
خذ مثلا الشاعرة الفلسطينية الأصل ناعومي شهاب ناي، والتي حصلت على العديد جدا من الجوائز في أمريكا وخاصة في مجال الشعر الموجه للأطفال، واستطاعت أن تدخل كلمة “ستي” بمعنى جدتي للقاموس الأمريكي بعد ديوانها الشهير الذي يحمل نفس الاسم.
ناعومي، تستقبل دائما بحفاوة أينما ذهبت، واستطاعت أن تقدم للثقافة العربية من خلال شعرها ما لم يقدمه الكثيرون من أبطال الخطابة والمشاريع العربية.
لقد توقع ابن الرومي يوما أن يتجاوز شعره كل الحدود، لأنه أدرك قوة ما يكتب، ولإن تحقق حلم ابن الرومي فعلا، فإن الشعر، سفيرنا العظيم، ما زال دفين أرفف المكتبات العربية المليئة بالغبار، ينتظر اليوم الذي نقرر فيه أن نخبر العالم _ كما لم يعهد من قبل _ عن العشق والحياة والجمال والمعاناة والرقي إلى السماء.
لدينا سفير عظيم لكننا قتلناه!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية