كانت الأشهر الأولى لانطلاق المنتديات العربية في عام 1995 مبشرة بالكثير من الخير والتفاؤل، فأخيرا سيتمكن المرء في عالمنا العربي من التعبير عن نفسه في جو من الحرية “الكاملة” بعد شكوى جماهيرية من تقييد الحريات عربيا، لكنها في نفس الوقت كانت التجربة مثيرة للإحباط لأن مستوى المشاركات كان ضعيفا وأحيانا سخيفا لدرجة مزرية.
كنت أقول في نفسي حينها العرب ما زالوا جددا على “الرأي الحر”، وهم ما زالوا ينفسون عن غضبهم و”الكبت” الذي كانوا يعيشونه، ولما استمر الأمر نفسه في أواخر التسعينات صرت أردد الحجج نفسها وأزيد عليها بأن المنتديات ربما لم تجذب المثقفين و”العقلاء”، وما زالت مركب المراهقين والجهلة والمتطرفين.
لم أكن أريد أن أصدق أبدا أن المنتديات تمثل العالم العربي وطريقة تفكير الناس فيه، ولكن بعد 10 سنوات من انطلاق المنتديات، أستطيع أن أقول وبكل إحباط يبدو أن المنتديات تمثل فعلا العالم العربي لأن مستوى اللغة والثقافة والتفكير فيه لم يتحسن بل ازداد سوءا.
إذا تجولت في المنتديات، وخاصة إذا حصل لك أن تطلع على المشاركات التي يحذفها “مقص الرقيب” _ وهو مقص متساهل جدا بسبب ظروف المنافسة بين المنتديات _ فستكتشف سريان عدد من الأمراض المستعصية التي تؤكد وجود مشكلة في طريقة التفكير وسطحية تثير أحيانا التقزز.
والغريب أن هذه الأمراض تشمل الجميع، سواء على صعيد الاتجاه الأيديولوجي من أقصى اليمين حيث التشدد والتطرف إلى أقصى اليسار، وعلى صعيد الجنسيات العربية، وحتى على مستوى الثقافة، هناك دائما نفس العلل: تعميم مخالف لأي منطق، أحكام متسرعة، غباء في النظر للأمور، التعجل في النتائج بناء على مقدمات محدودة، الإيمان بالمؤامرة في كل صغيرة وكبيرة، تعليق كل الأخطاء على شماعة الآخر، الهجوم الشخصي على الآخرين زورا وبهتانا، عنصرية متناهية ضد كل آخر بما فيها مواطنو دولة عربية مسلمة مجاورة، أو حتى سكان محافظة مجاورة في نفس الدولة العربية، البحث عن الأخبار الكاذبة ونشرها والبناء عليها دون أي تحفظ، الإفتاء بدون علم في أي شأن من الشؤون بما في ذلك الجيولوجيا وعلم الفلك فضلا عن الدين والسياسة، الى آخره من المشكلات التي لا تخفى.
المؤسف أنك مع الزمن تكتشف أن الموضوع لا علاقة له بجهل هؤلاء المشاركين بأن ما يفعلونه خطأ وجريمة _ وأقول بأنها جريمة بلا تحفظ _ لأن بعض هؤلاء يأتون من أطياف دينية يفترض فيها أن تعلم أن الكذب والغيبة واتهام الناس بالباطل أمر محرم بل وكبيرة من الكبائر، أو من أطياف ليبرالية يفترض إيمانها بالحياد و”سوق الأفكار الحر”، ولأن بعض هؤلاء خريجو جامعات وبالتأكيد مر عليهم في الكتب الكثيرة التي قرؤوها شيء عن استخدام العقل والتفكير والموضوعية.
هذا بالتأكيد ما يبرر اختفاء الجميع وراء الأسماء المستعارة حتى يمارسوا جرائمهم من وراء الأقنعة دون رقيب أو محاسبة.
وهذا أيضا يعني أن هذه الممارسات الفكرية تنطلق من نفسيات مليئة بالكره والغضب والعاطفة السوداء ومن أدمغة مشوهة تسللت فيها فيروسات فكرية مدمرة جعلت الناس تعبر بهذه الطريقة رغم معرفتهم بأن ما يفعلونه مخالف لكل أصول المنطق.
إن القضية مؤسفة جدا لأنها كما قلت لا تتعلق بسلوك مجموعة من الناس، بل صارت تعبر عن شريحة ضخمة جدا من الناس، ورغم أن كلامي لا يشمل بالتأكيد كل من يشارك في المنتديات، فهناك دائما الصوت العاقل الذي تحترمه وتفخر به، ولكن كون الأغلبية من المشاركين بهذا الشكل، فإن هذا يعني أن هناك شرائح واسعة من العالم العربي تفكر وتتحدث وتتفاعل الأمور في دواخلها بهذه الطريقة.
إن هدفي من هذا المقال ليس نقد المنتديات، فالمنتديات مرآة لنا، وحاشا لله أن يجرؤ أحد على أن يضع نفسه عدوا لـ”أبضايات” حواري المنتديات، ولكنه نقد لنا كشعوب عربية واكتشاف مباغت لواقعنا الأليم وانتشار هذه الأمراض بيننا.
هذا الإحباط يجعلني أعلنها بكل صراحة عن انضمامي لأولئك الذين يؤمنون بأن مشكلاتنا صادرة عن عقولنا، وأن الخلل في دواخلنا، وأن المشكلة الأساسية ليست أمريكا أو إسرائيل أو الديكتاتورية أو الاقتصاد، إنها عقولنا التي تجعلنا ننطلق في كل الاتجاهات الخطأ وتتركنا في وادي سحيق كل ما يرمى فيه مهما كان تافها ينزل على رؤوسنا.
نحن نغرق، هذا ما تؤكده المنتديات، ولا أدري إذا ما كان هناك بصيص أمل بأن الناس ستتحسن، لأن الشخص الذي تملؤه الكراهية والغضب والعنصرية والغباء يصعب علاجه، إلا..
إلا ماذا؟ لا أدري بالضبط لا بد أن هناك حل، ربما لو التفت كل المؤثرين في عالمنا العربي لهذه المشكلة العويصة وحملوا حملة رجل واحد عليها لانحلت المشكلة أو تحلحل الصدأ الذي يعلو العقول.
هذا ما يجعلني أقدم تحية كلها تقدير لأولئك القلة الذين يشاركون في المنتديات ويطالبون دائما بصوت العقل ويسألون عن مصدر كل معلومة ويشككون في الاستنتاجات والمبالغات غير المنطقية، وتحية لمن يشرفون على المنتديات ويحاولون تغليب صوت العقل على الصوت الجاهل حتى لو كان هذا الهجوم القاسي عليهم وخسارتهم للمنافسة، وتحية لكل من يحاول تعليم الناس التفكير المنطقي، وتحية لكل معلم يخاف على طلابه أن يصبحوا من “العامة” ويسعون لتعليمهم الاعتدال والحب وتقديس العلم والعقل.
لكل هؤلاء: أقول قد تكونون أنتم وحدكم طوق النجاة وقت الغرق..!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية