هناك ظاهرة حقيقية وعالمية بدأت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة وهي خفوت “صوت الخبراء” أمام الأصوات الكثيرة التي تملأ الفضاء الإعلامي في يومنا هذا.
بمعنى آخر، عندما تطرح أي قضية فإنك تسمع آراءا كثيرة ومتنوعة ولكنها تصدر عن الجميع إلا الخبراء الذين يعرفون القضية بحق ويستطيعون إصدار الرأي المناسب فيها.
تجد ذلك في مجالات أكثر من مجالات أخرى، ففي السياسة والدين والثقافة والأدب والاجتماع وحتى علم النفس والعلوم العسكرية والتقنية تجد هذه الظاهرة أقوى بكثير من مجالات أخرى مثل الطب وإن كانت لم تسلم من نفس المشكلة.
هناك أسباب عديدة لهذه الظاهرة، وهي تتضافر مع بعضها لخلق مشكلة حقيقية لأنها تعني ببساطة أن نسمع ونقرأ ونشاهد الكثير جدا من “الآراء” ولكنها آراء ليست ذات وزن، وهذه المشكلة لم تظهر فقط في وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت بل حتى في المؤتمرات العالمية والمتخصصة.
السبب الأول وهي مشكلة قديمة ولكن حجمها قد تزايد بشكل ضخم في السنوات الأخيرة وهي أن الخبير العميق الذي يحاول وضع توازن بين مختلف العوامل التي تؤثر على قضية معينة ويبحث عن المعلومات الموثقة والأدلة المنطقية غير مرغوب في كثير من الأحيان في وسائل الإعلام والمؤتمرات لأنه لا يحسن الإثارة ولا يحسن تقديم الرأي السريع جدا الذي يتميز بالسطحية بحيث يفهمه كل الجمهور ولكنه في نفس الوقت “مفذلك” بحيث يبدو متخصصا ومهما.
هناك الآن محترفون يحسنون التعامل مع الإعلام أو يحسنون حضور المؤتمرات ويمكنهم الحديث في قطاع واسع من القضايا بما يسعد الناس ووسائل الإعلام ويذهب الكل إلى بيته راضيا.
من جهة أخرى، معظم الخبراء الحقيقيين مشغولون جدا، وهم أيضا مضطرون ليكونوا متخصصين في تخصصات دقيقة، وهذا أمر لا يمتع الإعلاميين ومنظمي المناسبات الذين يبحثون عن أناس يتحدثون في نطاق واسع من الموضوعات.
السبب الثاني وجود مواقع البحث على الإنترنت، مثل Google، التي تسمح للشخص بالبحث في أي موضوع وجمع المعلومات بسرعة ثم ترجمتها إلى مقال أو حديث تلفزيوني أو عرض في مؤتمر، والبحث طبعا مفيد، ومن يبحث مشكور على جهده، ولكن هذا يتم عادة بسرعة وبدون التحقق من المصادر تساهم في سطحية الرأي وفي كثرة الأخطاء المعلوماتية.
السبب الثالث توسع ظاهرة “صوت الجمهور” عبر برامج المشاركة المباشرة أو عبر مواقع الإنترنت، والجمهور يساهمون في زحمة الأصوات، وإن كان الناس يعرفون أنهم جمهور فقط، ولكنهم في الحقيقة يؤثرون في تلقي الناس للقضايا وبناء الصور الذهنية وحتى المعلومات التي يتداولها الناس حسب ما أثبتت الدراسات العلمية.
السبب الرابع هي هيمنة “الثقافة الشعبية” ضد “الثقافة المتخصصة”، وبمعنى آخر، هناك إقبال على الموضوعات التي يهتم بها عامة الناس، وهي لا تخفى على أحد، مقابل الموضوعات المتخصصة والعلمية والعميقة التي يقل اهتمام الناس بها يوما بعد يوم، مما يعني ضعف الحاجة للخبراء على أي حال.
السبب الخامس أن حجم الحاجة للخبراء بسبب الطفرة الإعلامية وطفرة النشر وطفرة المؤتمرات في نمو سريع مع نمو بطئ جدا للخبراء، وهذا يعني الحاجة لأنصاف الخبراء وأرباعهم وحتى الجهلة أحيانا!
علاج المشكلة ليس بسهل، فهو يتطلب من جهة أن يطور الخبراء أنفسهم بحيث يستطيعوا مواكبة احتياجات وسائل الإعلام والمناسبات ويستخدموا نفس اللغة السهلة والسريعة والذكية والمثيرة ولكنها في نفس الوقت “دقيقة” وذات مصداقية.
العلاج الآخر في رأيي هو بناء قاعدة وطنية للخبراء والعلماء والمتخصصين تبنى على معايير ذكية بحيث تمنع المتشبهين بالخبراء والعلماء من دخول تلك القاعدة وفي نفس الوقت لا تكون مسألة بيروقراطية غير عملية.
مثل هذه القاعدة الوطنية ستسح لوسائل الإعلام ومنظمي المؤتمرات والناشرين أن يصلوا للشخص المناسب بسرعة وسهولة، وفي نفس الوقت، يمكن لمن يريد أن يميز بين الخبير وغير الخبير.
ولكن العلاج الحقيقي هو الوعي، أن يعرف الناس أن ما قد يصل إلى 70 أو 80% مما يسمعونه غير دقيق، وغير موضوعي، وأن الكثير من الأمور التي تروج على أنها نتائج دراسات أو “حقائق أكيدة” هي في الحقيقة جزء من الحقيقة أو خاطئة تماما.
يجب أن يعي الناس ورطة الإعلاميين الذين يحتاجون أن ينجزوا الكثير في وقت ضيق، وأن كثيرا من الإعلاميين غير مؤهل أصلا، وأن خروج شخص على التلفزيون لا يعني أنه يعرف ما يقول.
يضحك السياسيون كل يوم على الآراء التي يقولها الإعلاميون في تحليل القضايا السياسية لأن كثيرا من الإعلاميين يحلل ويهاجم ويتحدث وهو لا يعرف حقائق مهمة يعرفها السياسيون فقط، وتؤثر على القرار بشكل حاد، والجمهور يحتاج للوعي بهذه المسألة.
لهذا كتبت هذا المقال!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية