يعيش العقل العربي أمام قضية محيرة جاءت مع الإنترنت وتوسع عدد الزوار اليوميين للشبكة في العالم العربي حيث سمحت طبيعة الإنترنت للناس أن تكتب ما تشاء، صادقا كان أم كاذبا، ومقبولا حسب مختلف المعايير الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية أم مرفوضا.
وفي كل الحالات إذا منعك موقع ما من قول ما تريد، يمكنك ببساطة أن تذهب لموقع آخر وتقوله، وبينما كانت المؤسسات الرسمية تغلق المواقع، الواحد بعد الآخر، عندما تنشر ما هو مرفوض، فإن وجود مواقع عملاقة مثل “فيسبوك” و”يوتيوب”، تسمح بالنشر غير المحدود يجعل الأمر صعبا لأن هذا يعني حرمان الناس من مواقع هامة على الإنترنت.
لقد دأب الناس في العالم العربي على الحديث الإيجابي عن حرية التعبير، ضمن محاولتهم للحاق بالشعوب المتقدمة، ولكن لأن الثقافة العربية لا تؤمن في عمقها بحرية التعبير، وتعددية الرأي، ظهر ذلك في التعامل مع شبكة الإنترنت حيث يشعر الكثيرون أن الرقابة يجب أن تفرض بشكل واسع على ما ينشر على الإنترنت، لأن هناك الكثير مما هو غير مقبول نشره في رأيهم.
لكن القضية أكثر تعقيدا بكثيرا من ذلك، وإذا كانت شهادتي في القضية مجروحة بحكم رئاستي لموقع “العربية.نت”، والذي ينتقد كثيرا على أنه الأقل بين المواقع الإعلامية من حيث الرقابة على تعليقات قراء الموقع، إلا أنني أحب أن أشير لأمر مهم هنا وهو أنك إذا قررت ممارسة الرقابة على ما يكتبه الناس فستجد نفسك دائما أمام معضلة محيرة جدا وهي “معايير الرقابة”.
في ثقافتنا العربية لا توجد نظرية واضحة أو منطق مقبول بشكل واسع عما ينبغي نشره وعما لا ينبغي نشره، وهذا طبعا مختلف عن الدول الغربية حيث تجد في كل دولة خطوطا حمراء واضحة ومعروفة للناس وللعاملين في الإعلام والإنترنت وغيره، فمثلا في أمريكا لا يقبل أبدا نقد جنود الجيش الأمريكي وهم في ساحة المعركة، وفي ألمانيا لا يقبل أبدا الهجوم على اليهود لأن هذا سيعتبر شعورا نازيا، أما في العالم العربي فالأمر غير واضح بهذا الشكل، بل لدينا فقط مبادئ عامة ليس لها أي صفة واضحة، ودائما تجدها محل خلاف بين الناس.
عبر السنوات الماضية كنت دائما أناقش هذا الموضوع مع الناس محاولا الوصول لأرضية مشتركة وواضحة عن معايير الرقابة للمحتوى على الإنترنت، ولكن الآراء متباينة بشكل غير عادي، تجعلك تقف حائرا في موقف لا تحسد عليه أبدا.
والطريف جدا أنه في كل مرة يتم مناقشة سياسة الرقابة على المواقع بما فيها موقع “العربية.نت”، تجد نفس الشخص الذي يعاتبك على الرقابة المحدودة على نشر التعليقات، يعاتبك أيضا لأن تعليقه لم ينشر.
في كل مرة أتحدث مع شخص ذي خلفية أيديولوجية أو قومية، تراه يرى من المنطقي نشر رأيه ضد الفئات الأخرى، ومن المرفوض نشر رأي الفئات الأخرى ضد الفئة التي يؤمن بها أو يتبع لها.
لقد أوجد الإنترنت مجتمعا ديمقراطيا يفرض تلك الديمقراطية بالقوة، ويعطي مساحة متساوية للجميع، وهو أمر لم يستعد له العرب، لأن ثقافتهم في الأصل لا تؤمن بذلك، ولذا فنحن بحاجة ماسة لنظرية أو رؤية أو منطق يتفق عليه الجميع ويوجد أرضية مشتركة للتعامل مع هذه المواقف، وإلا فنستمر في وضع من الفوضى وتضاد الآراء “وإن كنا قد تعودنا على هذا الوضع الخاطئ في مختلف القضايا الأخرى”.
لقد أوجد الإنترنت تحديا حتى لأكثر المؤسسات ديمقراطية، فجريدة “واشنطن بوست” مثلا، اضطرت لإيقاف التعليقات على الموقع، وذلك لأن الديمقراطية في الأصل “محلية” حيث توجد معايير واضحة في كل دولة لما هو مقبول وما هو غير مقبول، ولكن الإنترنت جعل الديمقراطية “عالمية”، ووجدت الجريدة نفسها مضطرة لنشر تعليقات لأشخاص يهددون الأمريكيين بالموت والدمار _ وأكثرهم من العرب والباكستانيين _ وتعليقات لأشخاص يريدون حرق هوليود على بكرة أبيها، وهو أمر لم يعتاده الأمريكيون حتى ضمن إطارهم الديمقراطي الأكثر تحررا.
إن فتح باب الرقابة على المواقع العربية يعني أن نعطي الفرصة لشاب عمره 15 سنة أو شخص متطرف فكريا أو لشخص منحرف أو لشخص غبي أن يصبح “رقيبا”، وهذا معناه صناعة جيش من المراقبين غير المؤهلين لهذه المهمة الصعبة جدا والحساسة، وبالمقابل فإن التقليل من الرقابة يعني السماح لبعض العرب من المتطرفين أو الغاضبين أو المنحرفين ليقولوا ما يشاءون.
إنها المعادلة الصعبة التي تحكم كل من يفكر في حل لمشكلة المحتوى على الإنترنت الذي ينتجه عموم الناس، والمعادلة صعبة لأن الشارع العربي مليء بأولئك الذين ينبغي أن نخاف من قدرتهم على التعبير لأنها لا تراعي “خصوصيتنا الثقافية” أو نخاف من إعطائهم الصلاحية ليحددوا للآخرين ما يقولون.
لا أعرف الحل، وربما كان من الصعب أن تحل أي مشكلة في وضعنا الحالي.
نسأل الله العون.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية