لماذا يهمل الإعلام إنسانيتنا؟

من قسم شؤون إعلامية
الإثنين 11 ديسمبر 2006|

الشعور بالوحدة والحاجة للآخرين الذين يقفون معنا ويشاركوننا مشاعرنا الإنسانية الخفية وللذين نستطيع أن نخبرهم عن متاعبنا وأن نسمع منهم الكلمة الحلوة التي تخفف ضغوط الحياة هو شعور إنساني عام، يمر على كثير من الناس في مختلف أنحاء العالم.

يشعر الإنسان بجفاف القلب والحاجة لأولئك الرائعين الذين يسكبون سحرهم عليه حتى لو كانت حياتنا مليئة بالناس، ولو كان الهاتف الجوال يدق كل دقيقة، لأن من يسقي جفاف القلوب قليلون نعثر عليهم بالصدفة ونبكي عندما نفقدهم.

كل إنسان، مهما كانت انتمائاته وتاريخه ومستواه المادي وقوته الاجتماعية، له مشاعر وأحاسيس، وعندما يستطيع الناس الالتفات لأعماقهم وتلمس أحاسيسهم سيمكنهم حينها فهم أحاسيس الآخرين وستمتلأ قلوبهم بالرحمة والتعاطف مع كل إنسان آخر.

لقد دار التاريخ حول أحاسيس الإنسان، فالدول تقوم عادة لتأمين مصالح أفرادها وراحتهم المعيشية، ويكسب الزعماء التعاطف وتمشي وراءهم الشعوب عندما يرون في وعود هؤلاء الزعماء حلا لمشكلاتهم اليومية، ولكن التاريخ يغطي عادة قصص الزعماء وينسى الإنسان العادي والضعيف، وجاء الإعلام في قرننا الحاضر ليلتفت أيضا لـ”الشخصيات” وينسى الإنسان الذي يتاجر به هؤلاء الشخصيات وتتمحور حوله إنجازاتهم على اختلافها.

خذ العراق على سبيل المثال، تجد معظم التغطيات الإعلامية تتحدث عن الشخصيات السياسية وصراعاتها، ويصبح تصريح صحفي صغير يطالب فيها زعيم حزب بشيء ما خبرا هاما تتداوله وكالات الأنباء ومن بعدها محطات التلفزيون والصحف، بينما أولئك الذين يعانون بشكل يومي بسبب قرارات هؤلاء السياسيين على اختلافهم فيتم الحديث عنهم عادة بشكل مجمل وبالأرقام الكبيرة فقط، فتجد عنوانا صحفيا “مقتل 30 في انفجار سيارة، والشخصية الفلاني يستنكر الحادث”، مما يعني أن الثلاثين الذين ماتوا والذين تشكل وفاة كل واحد منهم مأساة أمر يتوازى في الأهمية مع التصريح السياسي.

هذه المسألة في التغطيات الإعلامية ليست مسألة نظرية، بل هي مسألة في صميم النقاش الإعلامي منذ عقود من الزمن، وقد أحدث الإعلام الغربي وخاصة الإعلام الأمريكي تغييرات ضخمة في بنية نشرة الأخبار، بناء على هذا النقاش، فتجد خبرا يتعلق بمأساة أسرة ما تعيش في أمريكا في بداية النشرة ومحل تركيزها، بينما قرار سياسي هام أصدره الرئيس الأمريكي أو الكونجرس يأتي لاحقا في النشرة، وقد يثير هذا العجب ويظنه القارئ مبالغة مني، ولكنه ما يحصل حقيقة بشكل يومي في كل نشرات القنوات الأمريكية على اختلافها بما فيها CNN “النسخة الأمريكية”.

هناك ثلاثة أسباب لهذه الظاهرة في أمريكا:

السبب الإنساني، والسبب المهني، والسبب التجاري.

السبب الإنساني مرتبط بتعاطف الناس مع الوسيلة الإعلامية التي تتعامل مع معاناتهم اليومية بحجم كاف من التقدير، وقد تطور هذا الأمر لاحقا حتى صار من الصعب على أي وسيلة أمريكية أن تتجاهل قصة معاناة إنسانية وإلا خسرت المنافسة مع القنوات الأخرى في عدد المشاهدين، ومن هنا يأتي السبب التجاري حيث أثبت الأمريكيون أن التغطية الإعلامية “الإنسانية” هي الأكثر رواجا وجذبا لعموم الجماهير بسبب عناصر الدراما فيها.

من جهة أخرى، تتعدد القصص الإنسانية بتعدد الناس مما أعطى فرصة للنشرات الإخبارية لتحقق تميزا صحفيا من حيث تغطية قصص صحفية مختلفة عن الأخرى، وذلك عادة بتكلفة مادية منخفضة مقارنة بالسبق الصحفي السياسي من مواقع الحدث.

بالنسبة للعالم العربي، الأمر معكوس تماما، فالناس تنتقد الوسيلة الإعلامية التي تغطي المعاناة الإنسانية بشكل خاص  على أساس أنها “حالة فردية”، وإذا كانت هناك مؤسسة حكومية متورطة في تسبيب المعاناة، فإن المؤسسة الحكومية تعتبر في نشر القصة الإنسانية “تضخيما لحالات فردية” وتشويها لـ”جهودها الضخمة المبذولة في راحة المواطن”.

لما نشر أحد المواقع الإخبارية قصة الطفلة الصغيرة التي أحالت مدرستها في الطائف حالتها إلى الجهات المختصة بعد اكتشاف تعذيبها من طرف أسرتها، تجد من خلال قراءة التعليقات على القصة الصحفية أن هناك الكثير من التعاطف، وهناك الكثير أيضا من اعتبرها حالة فردية لا تستحق هذا التضخيم، وجاء هذا الكثير بعد تعليقات أخرى استخدمت القصة الفردية للإساءة للمملكة أو السعوديين.

هذا معناه أن القارئ العربي هو قارئ تربى بشكل حاد على أن الصحافة تغطي المجموعة ولا تغطي الفرد، إلى درجة عدم قبوله للحالات الفردية، وإلى درجة استخدامه للحالة الفردية للإساءة للمجموعة.

لكن التجاوب مع هذا التحدي لا يكون بإلغاء التغطيات الإنسانية، بل بتثقيف القارئ والتعامل معه بتدرج، لأنه لا خيار أمامنا في العالم العربي إلا أن نعطي للهموم الإنسانية قدرها واهتمامها الخاص، لأن هذا سيساهم بلا شك في نمو “الوعي الإنساني” لدى الجمهور العربي في تعامله مع الناس من حوله، وهذا من طبعه يقلل طبيعة العنف في الإنسان، ويزيد من الرفق والمشاعر الإنسانية الإيجابية، ويزيد من تحضر الإنسان في تعامله مع من حوله، فالموظف الذي يرى معاناتك حتى تصل إليه وتنمو أحاسيسه الإنسانية في هذا الاتجاه لن يجرؤ على التعامل السيء معك، ولن يرغب أصلا في تسبيب الإحباط لك، وهذا الأمر ينطبق على الجيران والناس في تعاملها مع بعضها في الشارع، وغير ذلك.

إنني أدعي أن نمو الإحساس الإنساني لدى الغربيين بفعل النظام الديمقراطي والفلسفة الفردية والإعلام عموما ساهم في تصحيح كثير من الأمور في تعامل الناس مع بعضها دون الحاجة لتدخل القانون، ونحن كشعوب عاطفية تؤمن كثيرا بأخلاق العرب في التآخي والتراحم والاحترام العام سنكسب الكثير في إصلاح تعاملنا مع بعضنا إذا نمى لدينا الإحساس الإنساني والشعور بمعاناة الآخرين من حولنا.

ما أجمل المجتمع حين يكون كل من فيه حريصون على ألا يتسلل الجفاف إلى قلوبنا.

ما أجمل أن يعامل الإنسان أخاه الإنسان كما يحب أن يعامل.

* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية