كان المشهد الإعلامي الأسبوع الماضي أخاذا ومليئا بالإيحاءات، أعداد ضخمة من الصحفيين جاءوا من مختلف أنحاء العالم العربي لحضور تسليم جوائز دبي للصحافة، تتأمل في الوجوه لترى أؤلئك الشباب المتوقد الذي يرغب أن يجد نفسه على الساحة الإعلامية، كما ترى أولئك الذين شابت رؤوسهم وهم يتلاعبون بالقلم يمنة ويسرة، وتتلاعب بهم القضايا كما تتلاعب الأمواج بالمركب الصغير.
عندما يجتمع الصحفيون العرب تقرأ حكاية على الوجوه لأولئك الذين رغم كل القيود والظروف الصعبة يتنفسون الحرف ويقدمونه لقراءهم، وكلهم حيرة أمام الكثير من الاجتهادات المهنية الصعبة التي تحفظ لهم مهنتهم، وفي نفس الوقت تتجاذبهم رغبات المصالح الشخصية مقابل رسالتهم، وأعينهم معلقة خوفا من الرقيب والمجتمع ودعوات الغاضبين!
لكن جمال المشهد جاء بالدرجة الأساسية لأنه علامة أخرى من علامات نجاح دبي، نجاحها في تنظيم هذه الجائزة، ونجاحها في الاهتمام بكل التفاصيل التي تجعل من أي حفل مناسبة مميزة، وكان الفيلم التسجيلي القصير عن الشيخ زايد، رحمه الله، لمسة خاصة أضفت الكثير من الخشوع على المكان.
كان لهذا التنظيم المميز أن يضعك في جو انتظار لما ستسفر عنه الجائزة، ولكن الباقي كان في الحقيقة مجرد خيبات آمال.
خيبة الأمل الأولى بدأت من الأعمال الفائزة، والتي كان الكثير منها أعمال أقل من عادية المستوى من ناحية الأسلوب والمضمون والشكل الصحفي.
تتأمل قليلا ولا تعرف، هل حقا كانت هذه أفضل الأعمال المنتجة في العام الماضي على مستوى الصحافة العربية أم أن هناك خطأ ما، لأنه لو كانت الاختيارات ضعيفة فهذه مصيبة، ولو كان هذا حقا مستوى الصحافة العربية فالمصيبة أعظم!!
قلبت النشرة التي وزعت علينا يمنة ويسرة أبحث عن معايير التحكيم، عن الأعمال المرشحة الأخرى، عن أي مبررات تشرح اختيار أعمال ليس فيها أي شيء مميز _ بالنسبة لأكثر الجوائز وليس جميعها _ كما انتظرت من لجنة تحكيم الجائزة أن تحكي لنا قليلا عن كيفية اختيار الجوائز، ومن هم أولئك الذين قرروا من هم نخبة الصحفيين العرب، ولكن شيئا لم يذكر عن هذا المجال.
كانت الأمور تمضي في الحفل، بالضبط كما يتعامل المدير العام في مؤسسة عربية تقليدية مع موظفيه، يخبرهم بأنه قرر اختيار فلان كموظف مثالي أو كمدير تحرير دون أن يشعر بأي حاجة ليشرح لهم المبررات أو يقنعهم بالاختيار، لقد قررنا وعليكم القبول.
البعض في الحفل بدأ يتهامس بأن أكثر الفائزين ينتمون للمؤسسات الصحفية التي ينتمي إليها أعضاء هيئة التحكيم، وأنا متأكد أن معايير التحكيم لو كانت واضحة ومعلنة لجاء آخرون ليقولون أن الأمر مجرد مصادفة محضة، ولكن مع غياب المبررات تزداد مصداقية القيل والقال.
وأنا هنا أريد على أركز على نقطة هامة جدا في نظري وهي أن معايير التحكيم والاختيار في أي جائزة وخاصة في الجوائز المهنية الكبرى لا تساهم فقط في إضفاء المصداقية عليها، ولكنها أيضا تساهم في إرساء المعايير المهنية ورفع مستواها، وتشرح كيف يريد رجال مهنة ما أن تكون مهنتهم من حيث أسس الرقي والتميز، أملا في أن يساهم ذلك في دفع مهنتهم إلى الأمام.
لقد ساهمت الجوائز الأمريكية والأوروبية الصحفية العديدة في تحقيق هذا الدور، ولذا فالجهد الذي يبذل عادة في تحديد معايير التحكيم قد يتجاوز الجهد المبذول في اختيار الجائزة وتنظيم مجريات حفلها.
الصحافة العربية تعيش خمولا تاريخيا رغم انتعاشها الكمي والمادي، ولدى الصحفيين اليوم أسئلة كثيرة سواء كانت عن اتجاهات الكتابة الصحفية الحديثة أو عن أخلاقيات الصحافة أو عن دورهم في خدمة قضايا الأمة المنكوبة، وكان يمكن للجائزة أن تتحدث الكثير وتساعد في بناء دور تاريخي لو كان عند زعماء لجنة التحكيم إجابة.
بقي أن أقترح أن تكرم الجائزة “المؤسسة الإعلامية” لأن الصنعة الإعلامية ليست مجرد جهد شخص كما كانت سابقا، بل هي مؤسسة متكاملة يعمل فيها الصغير والكبير لإخراج هذا المنتج النهائي بشكل ناجح ومحقق لأهدافه، كما أقترح أن تكرم الجائزة مختلف أشكال العمل الصحافي بما فيها البرامج التلفزيونية الصحافية والصحافة الإلكترونية.
أيضا أتمنى كما تمنى غيري كثيرون أن تكون الفرصة قد أتيحت للحاصلين على الجائزة أن يتحدثوا ويخبرونا شيئا عن أنفسهم وتجربتهم المهنية في دقائق سريعة، ولكن حظ الموجودين في سماع كلمة واحدة من أحد الصحفيين العرب عضو لجنة الجائزة تحدث فيها عن “الأعداء الذين يتربصون بالأمة” ولا أدري لماذا لم يلق الكلمة رجاء النقاش مثلا الذي اختارته الجائزة كشخصية العام الإعلامية!!
بينما كنا خارجين من صالة الجائزة قال لي أحد الزملاء الصحفيين وهو يعبر عن إحباطه: كيف تسمح دبي مدينة النجاح بهذا الفشل؟
قلت له: دبي فعلت كل ما يمكن فعله من حيث الرعاية والتنظيم واختارت أشهر الأسماء الإعلامية العتيدة لعضوية لجنة التحكيم، وبقي الدور على الصحفيين العرب الذين يبدوا أنهم يعشقون دائما “العزف على الأوتار المهترئة”!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية