قبل فترة بسيطة، أعلن الوزير الدكتور غازي القصيبي، بأن عدد المتقدمين لحملة التوظيف بلغ 180 ألف شخص، وأن هذا يمثل “العدد الحقيقي لطالبي العمل”.
ورغم أن التصريح لا يتضمن إجابات عن أسئلة هامة مثل تعريف وزارة العمل لكلمة “عاطل عن العمل” و”طالب العمل”، ومقصد الوزير حين قال بأن هذا الرقم يمثل “من لديهم رغبة جادة في العمل”، والأساس العلمي والإحصائي الذي تأكد على أساسه أن كل من لم يتقدم لحملة التوظيف تنقصهم “الرغبة الجادة”، إلا أننا سنفترض أن هذه القضايا تم التعامل معها بشكل مدروس وجاد، وأن النتيجة هي ما أعلنه وزير العمل.
وفي حال اعتمدنا على الإحصائيات الرسمية للسكان لعام 2003، وبحذف الذين تقل أعمارهم عن 20 عاما والذين تبلغ أعمارهم 60 سنة وما يزيد نجد أن نسبة البطالة هي 6.22% في حال كان هؤلاء كلهم من الرجال، بينما تصل نسبة البطالة هي 3% في حال كان إعلان الوزير يشمل الرجال والنساء معا.
هذه الأرقام بشكل عام تمثل بعضا من أقل نسب البطالة عالميا مقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
هذا الإعلان يمثل صدمة، لأنه يعني في نفس الوقت إعلانا عن أن الإعلاميين والمثقفين ورجال الأعمال وعموم الناس كانوا في وهم كبير عندما ظنوا أن المملكة تعاني من أزمة “بطالة”، وهو الوهم الذي لعب عليه المغرضون، وتنادى بسببه الغيورون على الوطن لشحد كل الجهود لعلاجها، بينما النتيجة النهائية تثبت أن نسبة البطالة في المملكة محدودة جدا ولا تمثل تلك المشكلة الكبيرة بالمقياس العالمي.
بعد فترة قريبة من هذا الإعلان، كتب د. عبد الرحمن السلطان، مقالا في هذه الجريدة بعنوان “فليذهبوا غير مأسوف عليهم”، يتحدث فيه عن هجرة محلات الذهب للمملكة، وعلى أساس اهتمام الكاتب بعلاج مشكلة البطالة قرر بأن هجرة محلات الذهب من المملكة إلى دبي أمر يجب ألا يعطى أكبر من حقه لأن الخسارة الاقتصادية العامة تبقى محدودة جدا مقارنة بالفائدة التي تحققها قرارات سعودة محلات الذهب.
إلا أن د. السلطان، اعتمد في مقاله على تقديرات عامة، وهو خال من كثير من الأرقام الهامة التي تحسم المسألة لصالح أو ضد أهمية تجارة الذهب في المملكة.
والحقيقة أن د. السلطان، لا يلام، كما لا يلام أؤلئك الذين بالغوا وضخموا من قضية البطالة، وأيضا لا يلام عشرات الكتاب الذين يكتبون كل يوم مقالات في مختلف الصحف والمجلات المحلية وتتناول قضايا حيوية جدا ويصدرون فيها آرائهم، دون الاعتماد على أية أرقام، لا يلامون ببساطة لأن هذه الأرقام غير متوفرة.
إننا نعاني من مشكلة حقيقية ذات آثار كبيرة جدا تتجاوز ما قد يتخيله الكثير من القراء لأول وهلة وهي مشكلة غياب الأرقام أو “المعلومات الصلبة” أو الـ”داتا”، والمشكلة يعرفها بوضوح الباحثون الاقتصاديون والتسويقيون الذين يعدون مئات الأبحاث ودراسات الجدوى كل شهر _ مدفوعة الثمن من الشركات _ ويصدرون قرارات وتوصيات هامة في آخر تلك الدراسات دون أن يكون لديهم من المعلومات ما يكفي للجزم بكثير من هذه القرارات.
هذه مشكلة صانع القرار أيضا، سواء في القطاع العام أو الخاص لأن صناعة القرار وعلاج المشكلات مبنية بشكل أساسي على تصور الواقع، وحين تنعدم الأرقام يصبح تصور الواقع مبنيا على التخمينات وما يسمعه صانع القرار في دائرته الخاصة وليس على الحقائق. هذا يجعل حياتنا _ والمشكلة تشمل كل دول العالم العربي بلا استثناء _ خالية من القرارات المبنية على أسس علمية وإحصائية صحيحة.
إن حل المشكلة يبدأ من الوعي بها، وسيرى الجميع المشكلة بوضوح لو الترم كل صانع قرار ومخطط وكاتب وباحث بأن تكون كل قراراته مبنية على معلومات أكيدة وأرقام موثقة، وهو الأمر المعتمد في دول العالم المتقدمة كما هو معروف.
عندها سنعي المشكلة ونؤمن بأهمية تطوير البنية التحتية الإحصائية وحينها ستكون مؤسسات القطاع العام والخاص مستعدة للإنفاق على توفير هذه الأرقام.
هناك مشكلة أخرى يمكن تفصيلها في مكان آخر وهي أنه حتى في حالة توفر الوعي لدى بعض الشركات وتوكيل مكاتب الأبحاث لتنفيذ الدراسات، تنفذ بعض هذه الدراسات من خلال أشخاص ضعيفين المصداقية وبطرق خالية من العلمية، فتظهر الدراسات وكأنها تعطي أرقاما حقيقية، بينما هناك مراكز أبحاث أخرى _ مثل بعض تلك المتخصصة في مراقبة انتشار الصحف _ مشهور عنها في السوق أنها مستعدة لتزوير الأرقام إذا دفع لها المبلغ المناسب.
هناك أيضا مشكلة ثانية تحتاج لتفصيل لاحق وهي مرتبطة بتخلف الآليات الإحصائية المعتمدة في الجامعات العربية بما في ذلك مراحل الماجستير والدكتوراه، حيث لازالت تعتمد هذه الدراسات على اختبارات إحصائية أولية مع ضعف شديد لدى الخريجين حاملي الدرجات العليا في هذا المجال مقارنة بالخريجين من الجامعات الغربية والجامعات الآسيوية الراقية.
إنني على هذا الأساس أقترح الاهتمام العاجل بتأسيس هيئة هدفها علاج هذه المشكلة، تنشر الوعي بها، وتشجع المؤسسات على الإنفاق لعلاجها، وتشرف على مكاتب الأبحاث وآلياتها، وتؤسس قواعد معلومات متاحة للجميع بلا مقابل تحتوي على نتائج هذه الدراسات حتى تشجع ثقافة الاعتماد على الإحصائيات والحقائق الرقمية.
هذه الهيئة قد تساهم أيضا مع وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي في نشر ثقافة التعامل مع الأرقام في المناهج الدراسية بحيث يصبح الخريجون قادرين على التعامل مع الإحصاءات ولغتها ويفهمون نسبة الخطأ والارتباطات الإحصائية وغيرها من القضايا الرقمية الهامة.
نحتاج لقرارات صحيحة أمام قضايا كثيرة نواجهها كل يوم، ونحتاج من الصحافة أن تعالج مشكلاتنا بناء على معلومات حقيقية، وهذا ما يجعلنا في حاجة لـ”صحوة رقمية” تهتم بأن تكون حياتنا مبنية على الحقائق وليس على الأوهام!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية