يؤمن الغربيون بعمق _ كما هو معروف _ بالأهمية البالغة للإعلام في صياغة مختلف مفردات الحياة، وتفعيل الحركة السياسية والاجتماعية، وهذا ما يجعلهم يراقبون تجربة الإعلام العربي، وأثره في بناء الواقع العربي الحالي، وخاصة أن رغبة البعض في الغرب بـ”إصلاح” هذا الواقع، يجعلهم يتأملون دور الإعلام العربي في تحقيق هذا الهدف.
من هذا المنطلق جاء التقرير الصحفي الموسع الذي نشرته مجلة “وايرد” Wired، والتي تعتبر من أشهر المجلات الأمريكية الحديثة، وحاولت تسليط الضوء على تجربة دبي كمدينة، وكـ”فكرة”، في مقارنة ذكية بين دبي وبين العالم العربي لرصد نقاط “التقدم” و”التخلف” كما يراها كاتب التقرير لي سميث، والذي يؤلف _ حاليا _ كتابا عن “الثقافة العربية”.
لكن سميث، استفاد من الحديث عن دبي ليتحدث من خلالها عن مدينة دبي للإعلام، وتجربة قناة “العربية” بالذات كمدخل لتقييمه للإعلام العربي في مرحلة ما بعد القنوات الفضائية.
ولعل أبرز نقاط هذا التحليل هو مصداقية الإعلام العربي، والتي لخصها باعتماد بعض القنوات الإخبارية الفضائية العربية على “النموذج الذي تم اختباره مع الزمن في المنطقة العربية: كن عاطفيا، مثيرا، وركز على اللغة الإنشائية والخطابية”.
هذا النموذج كما هو واضح من تحليل سميث، مثير لقلق المراقبين الغربيين الذين يرونه مخالفا لأصول المصداقية الإعلامية، وأداة لنشر الأفكار المغلوطة.
العربية، من جهتها كما استنتج سميث من حواراته مع مسئولي القناة، تعتمد على نموذج مختلف يحاول تجنب النموذج العاطفي التقليدي ويقترب أكثر من الأصول الإعلامية المتبعة عالميا والتي تؤكد على الموضوعية والعقلانية والحياد، حتى لو كان هذا مخالفا لما اعتاده الإعلام العربي خلال أكثر من 100 عام، مما يعني أن العربية تحاول صناعة “ثورة اتصالية” كما تنقل المجلة عن صلاح نجم، نائب المدير العام للقناة، وكما اعترف بذلك البيت الأبيض، حسب ما يذكر سميث.
لقد كانت “العربية” إنجازا لدبي التي أسست منطقة حرة للإعلام، وحققت نجاحا كبيرا مع تعهدها بعدم المساس بحرية الإعلام المتمركز في هذه المنطقة، وكانت “العربية” إنجازا بحد ذاتها حيث استطاعت أن تنطلق إبان حرب العراق وتحقق نجاحا كبيرا في فترة قصيرة نسبيا.
يلاحظ سميث، أن “العربية” نجحت لأنها ركزت على نقطة هامة: “كيف نميز أنفسنا عن المنافسين؟” حسب ما قاله فادي إسماعيل، مسئول الأفلام الوثائقية بالقناة.
لقد كان الجواب من خلال زيادة الساعات الإخبارية إلى 16 ساعة يوميا بدلا من 11.5 ساعة _ أكبر عدد من الساعات الإخبارية لقناة عربية إخبارية واحدة قبل انطلاق العربية _ ومن خلال اتباع المعايير الصحفية العالمية.
وحسب ما يروي سميث، كان التحدي كبيرا _ لأن ذلك يعني كما يروي عن صلاح نجم _ “إعادة تعليم الصحفيين العرب” و”مواجهة التقاليد الإعلامية السائدة”.
أحد التغييرات الهامة كانت منصبة في التعامل مع اللغة، فالبعض كان يرى أن التعبير باللغة العربية يأخذ عددا أكبر من الكلمات، ولذلك كانت تجربة صلاح نجم، حين كان يعمل في BBC قبل انتقاله للعربية، بأن التقرير المكون من دقيقتين بالإنجليزية يطول إلى 3 دقائق عند ترجمته للعربية.
لعلاج ذلك، كان الحل إصدار قرار ألا يتجاوز تقرير إخباري مهما كان الدقيقتين والنصف، وكان هذا الحافز التلقائي لإلغاء العبارات الإنشائية والعاطفية.
لكن سميث، يشير إلى أن التخلص من “العاطفية” ليس بالأمر السهل، وخاصة في أوقات الأزمات، وينقل على لسان فادي إسماعيل قوله: “لو تجنبت تحقيق الاحتياجات العاطفية، لاتهمك الناس بأنك منفصل عنهم، ولو تجاوبت مع غضب الناس بالعاطفة، لدخلت في دوامة غير مقبولة، ولذا فالحل للخروج من الدوامة هو أن تكون عقلانيا وناقدا”.
لكن هذا الأسلوب حسب ما يروي سميث، عرض قناة “العربية” لبعض المتاعب، وحسب روايته فإن مراسل “العربية” لم يحقق ما تتوقعه السلطة الفلسطينية من التعاطف الكامل مع الفلسطينيين، ولذا لما استبدل مراسل القناة في الضفة الغربية كلمة “الشهيد” بكلمة “القتيل”، وهي كلمة أكثر حيادية حسب المعايير الإعلامية، انهال أفراد من حزب “فتح” على المراسل بالضرب.
هناك أيضا من يعتقد أن العربية لم تحقق هذا المنهج الموضوعي دائما، بل إنها ارتكبت أخطاء حسب ما ينقل سميث، عن مسئول أمريكي في العراق، ويقول بأن مراسل القناة ادعى بأن هيلوكبترا بريطانيا قصف مراكز شرطة في البصرة، بينما كانت الحقيقة أن سيارة انفجرت بقرب مركز الشرطة، ويضيف المسئول بأنهم تحدثوا مع إدارة القناة بهذا الشأن، معتبرا القناة أكثر “اعتدالا” من غيرها، وإن كان المراسلين في الميدان ينجرفون أحيانا.
هناك حالات أخرى تبقى مفتوحة للاجتهاد، وقد تسبب انجراف الطرف الآخر، كما يقول سميث، كما حصل عندما أغلق مجلس الحكم العراقي المؤقت مكتب قناة “العربية” في بغداد لمدة شهرين بعد أن بثت العربية شريطا للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.
لكن سميث، يرى تغطية العربية للعراق تغطية متوازنة، ويذكر بعبارات إيجابية برنامج “من العراق” والذي بالرغم من الحديث عن بعض المآسي التي تلت الحرب في العراق، فإنه ذكر “بعض مميزات الاحتلال الأمريكي الإيجابية”.
لكن لماذا تفعل “العربية” ذلك وتركز على الموضوعية؟
يجيب سميث، بأنه “ليس البنتاغون، بل المنافسة”، والمنافسة الشديدة بين العربية وغيرها من الفضائيات تجعلها تبحث عن المشاهد الذي يبدو حسب ما يقول سميث راغب في “الدقة والمصداقية”، ويستشهد على ذلك بإحصائية قامت بها شركة “جالوب” العالمية في شهر أبريل الماضي، حيث قال 39% من العراقيين بأن “العربية” هي الأكثر موضوعية، بينما 35% من العراقيين قالوا بأن “الجزيرة” موضوعية، كما أن العربية تحقق _ حسب ما يبدو للمجلة الأمريكية _ شعبية أكبر في العراق، فقد بينت إحصائية قامت بها وزارة الخارجية الأمريكية في شهر أكتوبر الماضي بأن 37% من العراقيين المشاركين في الإحصائية يعتبرون “العربية” مصدرهم الإخباري المفضل، بينما اعتبر 26% من العراقيين قناة “الجزيرة” مصدرهم الإخباري المفضل، وجاءت قناة “العراقية” _ والتي تدار بدعم من الحكومة الأمريكية _ في المركز الثالث، وذلك بسبب اختيار 12% لها كمصدر إخباري مفضل.
النتيجة التي يصل إليها سميث في آخر مقاله بأن تجربة دبي بكل مكوناتها قد تقود تجربة العالم العربي نحو الأمام، وعلى الأقل هذا ما يرجوه الكاتب.
* نُشر في موقع قناة العربية «العربية.نت»