«فهرنهايت 9/11»: قصة الانتقام من بوش

من قسم شؤون إعلامية
السبت 17 يوليو 2004|

من كان يظن أن فيلما وثائقيا سياسيا يمكن أن يجذب الملايين حول العالم ليختاروا مشاهدته بدلا من مشاهدة أي من الأفلام الهوليوودية الأخرى التي تعج بالإثارة والخدع السينمائية وسحر النجوم؟

الجواب حسب ما يبدو أصبح ممكنا عندما أصبح بطل الفيلم الرجل الذي شغل الناس منذ 11 سبتمبر: جورج بوش، والأبطال الآخرون: أسامة بن لادن، ديك تشيني، رامسفيلد، كوندليزا رايس، وأخيرا صدام حسين.

في فيلم “فهرنهايت 9/11″، استطاع مايكل مور، المخرج المثير للجدل والإعجاب في آن واحد، أن يضم صورا حقيقية منتقاة بعناية بالغة لهؤلاء الأبطال السياسيين، تقدمهم بشكل كاريكاتوري مثير للسخرية والضحك والكراهية أحيانا، مع عدد من النظريات السياسية التي تزيد من السخرية والضحك والكراهية.

أهم هذه النظريات المطروحة في الفيلم: بوش لم يفز بالانتخابات بشكل عادل بل كان آل جور، هو الفائز الحقيقي، ولكن فسادا هائلا في جهاز الانتخابات سمح لبوش بالفوز.

جورج بوش، كان رئيسا بليدا في أشهر الحكم الأولى ولم ينقذه إلا أحداث 11 سبتمبر، وبالرغم من كل التحذيرات، لم يتخذ بوش إي إجراءات لمواجهة خطر الإرهاب والهجوم على أمريكا.

وأخيرا لم يهتم بوش كثيرا بالانتصار على بن لادن، بقدر ما اتخذ الحرب على أفغانستان، كذريعة لشن حرب ظالمة على العراق، بدوافع البترول ومساعدة شركات النفط والسلاح التي يرتبط بها هو وأبوه الرئيس جورج بوش، ونائبه ديك تشيني.

هذه النظريات تلخص مسار الفيلم وما استند إليه بالإضافة لنظرية أخرى خطيرة جدا: بوش كان مذنبا 

الهجوم على السعودية

لأنه لم يحاسب السعوديين، الذين يعتبرون متهما رئيسيا في أحداث 11 سبتمبر، لأن المختطفين كان أكثرهم سعوديين، ولأن أسرة بن لادن، لها احترامها في السعودية ولها ارتباطها التجاري بأسرة بوش.

وبقدر ما يمكن مناقشة كل النظريات وقبول بعضها ورفض بعضها، فإن النظرية التي تربط السعودية بأحداث 11 سبتمبر بناء على حجج واهية مثل هذه تؤكد بوضوح أن مايكل مور، كان يريد إحداث جدل سياسي ضد بوش، حتى لو اضطر للاعتماد على نظريات ليس لها من المنطق نصيب.

في الوقت نفسه، عطل مايكل مور، الحديث عن أي نظريات كان يمكن أن تخلق حاجزا بين فيلمه وبين الانتشار حول العالم، وأعني هنا النظريات ذات العلاقة بإسرائيل واليهود.

هناك مقولات كثيرة تدعمها أدلة لا تقل شأنا عن الأدلة التي استخدمها مور في فيلمه، بأن بوش خاض حرب العراق نيابة عن إسرائيل، وأن انحياز أمريكا الشديد لإسرائيل هو الذي جعلها مرفوضة ومكروهة في العالم العربي، وأن إسرائيل عرفت بشأن انفجار 11 سبتمبر قبل حدوثه.

حتى القضية الهامة جدا في رأي كل من انتقد بوش، وهي “تعريف الإرهاب”، والتي سمحت لأمريكا بالتحرك حول العالم وتقديم ضربات عسكرية وسياسية ضد كل أهدافها باسم محاربة الإرهاب، وانتهت بضرب العراق، والتشديد على سوريا وإيران وليبيا والسعودية وغيرها، لم يتعرض لها مور إلا بسرعة البرق، لأنها تعني ببساطة أن الحرب على حماس وحزب الله ستكون أيضا محل تساؤل.

لكن مايكل مور، كان ذكيا جدا في اختيار أهدافه، ليعطي فيلمه، الأول من نوعه، فرصة الانتشار بشكل غير مسبوق حول العالم.

وبالرغم أن الفيلم حقق انشارا واسعا في صالات السينما في الإمارات والبحرين على مستوى دول الخليج، وهي صالات يرتادها كما هو معروف نسبة لا بأس بها من السعوديين السواح، إلا أنه كان محبطا للكثير منهم الذين كنت أسمعهم بعد الفيلم _ ونحن نهبط على السلالم الكهربائية _ غاضبون من التركيز على السعودية والتجاهل الكامل لإسرائيل.

 

السياسة البديلة

فيلم مايكل مور، يعتبر الأول من نوعه ليس فقط لأنه فيلم وثائقي خالي من التمثيل والخدع السينمائية، حقق انتشارا عالميا رغم اهتمامه السياسي البحت، ولكنه لأنه الأول من نوعه الذي يعتمد على نظريات سياسية ضعيفة الانتشار ويصل لقنوات “الثقافة الشعبية” في أمريكا والعالم.

ولأشرح هذا أوضح أن النظريات السياسية التي قدمها مايكل مور، موجودة في أمريكا، ولكنها مقدمة فقط في صحف يسارية قليلة الانتشار، وفي كتب يباع منها الآلاف فقط، ومن النادر أن تجد لها أي موطئ قدم على شاشات التلفزيون، وهذه النظريات تسمى في أمريكا بـ”السياسة البديلة” أو Alternative Politics، لأنها تمثل بديلا للأفكار السياسية الشائعة في القنوات الإعلامية، وهذه النظريات تتدرج من اعتبار حروب أمريكا حروبا ظالمة إلى أن تصل لإنكار الهولوكست والإيمان المطلق بنظرية المؤامرة.

فيلم مايكل مور، هو أول عمل “شعبي” يقدم هذه الأفكار لعموم الجمهور وعبر أخطر وسيلة وأكثرها تأثيرا: السينما.

هذا هو السبب الذي جعل بعض خبراء الشؤون السياسية يعتبرون الفيلم منعطفا تاريخيا لأن الفيلم السياسي السينمائي، في حالة فيلم “فهرنهايت 9/11″، صار مفصلا مؤثرا في السياسة الداخلية الأمريكية، وقد ينتج بسببه أفلام سينمائية أخرى تدعم أفكارا أخرى، وخاصة في أعوام الانتخابات.

 

أسرار النجاح

كيف استطاع مايكل مور إنتاج فيلم وثائقي يسحر جماهير شاشة السينما؟

  • أولا: استخدم الصورة العاطفية التي تستدر الدموع. صور من مأساة العراق، مأساة 11 سبتمبر، مأساة المواطن الأمريكي العادي، مأساة أسر الجنود الأمريكيين، مأساة ضحايا القوانين الجديدة في أمريكا التي تقيد الحريات الشخصية.

استخدم أيضا الصور السلبية الساخرة، بما فيها صور مصطنعة مثل محاولاته مع أعضاء الكونجرس أن يسجلوا أبناءهم في التطوع العسكري لحرب العراق، وتصوير ردود فعلهم وملامح وجوهمم الغاضبة والمتعجبة.

  • ثانيا: استغل قوانين “حرية المعلومات” في أمريكا التي أتاحت له الوصول لصور شخصية جدا للأبطال السياسيين للفيلم، واستخدم هذه الصور بشكل غير مسبوق.
  • ثالثا: استخدم الموسيقى التصويرية وبعض المؤثرات السينمائية البسيطة التي حولت الفيلم كله لفيلم كارتوني كوميدي يجعلك “تضحك بغضب” على شخصيات الفيلم من أوله إلى آخره.
  • رابعا: قدم الفيلم وكأنه سيكشف أسرارا عن 11 سبتمبر وكيف تعامل الرئيس بوش معها، مما خلق فضولا غير عاديا عند الجماهير، الذين ما زالوا مصدومين بالتغيرات التي خاضها العالم بعد ذلك اليوم المشؤوم.
  • خامسا: استخدم شاشة السينما التي تجعل كل شيء يعرض عليها عظيما مؤثرا جميلا ساحرا يتسرب إلى عظامنا ويتركنا عاجزين عن الحركة ونحن نستقبل صورها الضخمة التي تتجاوز قدرتنا على النقد وتجعلنا في حالة دائمة من الانبهار.

 

آثار الفيلم

وما هي آثار هذا الفيلم؟

هذا الفيلم سيترك آثاره السلبية على بوش بالتأكيد، وسيترك آثاره السلبية على السعودية بالتأكيد أيضا، رغم ضحالة المنطق التي هوجمت به، وستجعل كل السياسيين القادمين للساحة حذرين من أخطاء بوش، وستجعل الكل بلا استثناء خائفين من تسرب أي صور ذات طابع شخصي، ولكنها أيضا ستجعل شركات السينما تتعامل بإيجابية عالية مع الأفلام الوثائقية السياسية، كما ستجعل قنوات الإعلام مهتمة بـ”السياسة البديلة” بعد الشعبية التي تحققت لفيلم مايكل مور، وستحول مايكل مور، بطلا سياسيا خالدا.

لكن “السياسة البديلة” أمر محارب بالطبع، وستستمر الحرب ضدها من الأحزاب السياسية الكبرى ومن كل القوى التي لا تريد أن تكشف ملفاتها بما في ذلك اللوبي اليهودي ولوبي شركات الأسلحة في أمريكا.

أما أجمل ما في هذا الفيلم فو أنها جعلتنا نحن ضحايا “الحرب على الإرهاب”، العرب الذين ارتبط اسمهم بـ11 سبتمبر، بسبب حماقات فئة قليلة منا، ودفعنا ثمنها غاليا على المستوى السياسي والإنساني، في صف واحد مع الشعب الأمريكي وحتى أفراد الجيش الأمريكي وربما صدام حسين.

كلنا ضحايا لبطل الفيلم الرئيس الأمريكي جورج بوش، وكلنا نحمل مشاعر إنسانية، وحتى ذلك الجندي الأمريكي الذي مات في حادثة سقوط طائرة هيلوكبتر في بغداد، كان بشرا بقلب إنساني ذهب للعراق مضطرا، وكان يراسل والدته “الطيبة” متمنيا اليوم الذي يسقط فيه الرئيس بوش.

إنه فيلم يقدس الشعور الإنساني الحزين في مواجهة الآلة السياسية والعسكرية والقانونية الطاغية.

 

رجال بيض أغبياء

إذا كانت نظريات مايكل مور تعجبك، فهناك تفصيل كامل لها في كتابه “رجال بيض أغبياء” والذي حقق شهرة واسعة بعد الكلمات الشهيرة التي ألقاها مور، في خطابه بعد أن حاز على جائزة الأوسكار كأفضل مخرج أفلام وثائقية لعام 2003: “نحن نعيش في عالم زائف، انتخبنا رئيسا زائفا يقودنا لحرب ذات أسباب زائفة، عار عليك.. عار عليك يا سيد بوش”.

كانت هذه من أقوى العبارات السياسية التي أطلقت في حفل لأوسكار يجتمع فيه نجوم الجمال والفن والترفيه، نجوم هوليوود. وقد صدرت الطبعة العربية من الكتاب حديثا عن الدار العربية للعلوم في بيروت.

والفيلم والكتاب والخطاب وأعمال أخرى لمايكل مور، مركزة بشكل حاد على بوش، في واحدة من أقوى حملات المعارضة التي يقودها شخص واحد ضد زعيم أقوى دولة في العالم.

مايكل مور، قدم في بداية فيلمه مقطعا أهانه فيه بوش، لما أراد أن يسأله في أحد المناسبات الانتخابية فرد عليه بوش: “ابحث لنفسك عن عمل حقيقي”، وكانت حسب كلام مايكل مور، “نصيحة جيدة” وكان العمل الحقيقي تحقيق ملايين الدولارات من الفيلم الذي حقق رقم 1 في شباك التذاكر في أمريكا وصنع أكثر من 100 مليون دولار من الأرباح، في انتقام تاريخي من بوش، الذي لم يدرك حينها أنه يتحدث مع عاصفة اسمها مايكل مور، قد تطيح به من عرش الرئاسة في 5 نوفمبر 2004.

* نُشر في موقع قناة العربية «العربية.نت»