تطوير المناهج الغربية منبثق من «ثقافة الإبداع»

من قسم منوعات
الإثنين 02 أغسطس 2004|

تمثل “الثقافة التعليمية” الرؤية السائدة الموجودة في منطقة ما نحو مختلف عناصر عملية التعليم، وأنا أدعي أنه بشكل عام يمكن تقسيم الثقافات التعليمية إلى قسمين: ثقافة الذكاء وثقافة الإبداع.

في ثقافة الذكاء يكون هناك تركيز عال على مدى قدرة الطالب المعلوماتية والمعرفية وقدرته على التعامل مع مسائل الرياضيات والفيزياء وغيرها وقدرته على “فصفصة” المناهج الدراسية وإدراك عميقها والخفي منها.

في ثقافة الذكاء يكون “الذكي” هو المقدر والمتفوق في المؤسسات التعليمية وأحيانا في المؤسسات الاجتماعية على اختلافها.

تجد هذا النموذج في دول آسيا عموما بما فيها الدول المتقدمة كما تجده في الدول العربية مع التفاوت في المناهج المتبعة لتحقيق ذلك وفعاليتها.

أما ثقافة الإبداع فهي معنية بمدى قدرة الطالب على الإتيان بالجديد المميز.

في هذه الحال تتغاضى المؤسسات التعليمية عن إتقان الطالب للعلوم مقابل تشجيعها الواسع لقدرته على الإبداع والتجديد والإتيان بالرأي الخاص غير المسبوق كما تشجع اختلاف الآراء وتنوعها ولا تحاول رفض الرأي الغريب غير المتعود عليه.

هذا النوع من الثقافة شائع في بعض دول أوروبا وخاصة منها الدول الإسنكندنافية كما أنه الأصل المتبع في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا.

ولا يمكن بحال الإدعاء أن أحد الثقافتين أفضل من الآخر، فكلاهما له سلبياته وإيجابياته، وكنت قد اطلعت على دراسة علمية أمريكية وجدت أن الأطفال المبدعين متفوقين على الأطفال الأذكياء في الإنتاج والتعامل مع المشكلات، لكن هذه الدراسة أجريت في مدراس أمريكية مبنية على ثقافة الإبداع مما يقلل من موضوعيتها.

لكن يبقى نوع الثقافة وما تعنى به من أهداف أمر أساسي لفهمها وتقويمها، ولعل النموذج الأمثل يكون بإجراء تعديلات على هذه الثقافات للخروج بثقافة معتدلة في الوسط لها إيجابيات ثقافة الإبداع وثقافة الذكاء في آن واحد.

المشكلة التي تقف في وجه خلق الثقافة المعتدلة أن “الثقافة” تقوم عادة على معتقدات ووجهات نظر ترسبت في النفوس على مر السنين ويصعب تغييرها، ولذا فإن كل المحاولات السطحية التي حاولت التقليل من حجم التلقين في نظام المدارس العربية باءت بالفشل الذريع لأنها تحاول أن تقول للمجتمع أن الطفل الذكي الذي يحفظ كل المعلومات ليس متفوقا حقا، وهذا يخالف ما يؤمن به الناس ويشد إعجابهم نحو الأطفال في العالم العربي منذ أمد بعيد حين كان “الحافظ” والرجل الموسوعي مثيرا لإعجاب الناس وتقديرهم.

حتى الأمريكيون يسعون كل عام لرفع مستوى طلابهم العالمي في الرياضيات والأدب _ وهو متدني جدا _ ويتحدث كل رئيس أمريكي عن إحباطه للنتائج السنوية التي يحققها الأمريكيون في هذا المجال رغم عنايتهم القصوى بالتعليم، ويحاول الكونجرس الأمريكي إيجاد الوسائل التي تزيد من اهتمام الأمريكيين بحفظ المعلومات ولكن محاولاتهم تبوء بالفشل، لأن الأمريكيين لا يدهشهم الشخص الذي يجيد حل المسائل أو حفظ المعلومات مادامت المعلومات موجودة في الكتب وعلى شبكة الإنترنت ومادام حل المسائل ممكن بالكمبيوتر ومن خلال قلة من المختصين وبالاستعانة بالكتب.

ما يدهش الأمريكيين هو الإتيان بالجديد مهما كان غريبا ومخالفا للأعراف وهذا ينعكس على النظم التعليمية شاء البيت الأبيض ذلك أم لم يشأ.

لكن “ثقافة الإبداع” ليست العامل الوحيد الذي يؤثر على طرق تطوير المناهج التعليمية في أمريكا والغرب ولكنها عامل رئيسي، فثقافة الإبداع لا يمكنها أن تنمو في مجتمع لا يتعامل بتسامح مع الفشل.

من المقبول جدا في المجتمع الأمريكي أن يقوم بشخص بتجربة شيئ معين وأن يفشل دون أن يؤثر هذا على سمعته لأن هذا شرط ضروري لدفع الناس على التجرؤ على الإبداع والإتيان بالأفكار الجديدة على الناس.

تجد أثر هذا واضحا في العمل التجاري فمن الملاحظ في أمريكا أنه يتم تجربة آلاف الأفكار التجارية كل عام، وينفق عليها الملايين، وربما انطلقت بقوة ثم ثبت فشلها بعد ذلك، وهذا في النهاية لا يؤثر على سمعة رجل الأعمال ولا الشركة لأن الفشل جزء أساسي مقبول في الأفكار الجديدة. وهناك أمثلة كثيرة تؤكد أهمية هذا العنصر في ثقافة الإبداع ليس هنا محل ذكرها.

لكن حب الأفكار الجديدة وحب تجربتها جعل المؤسسات التعليمية في الغرب تمر بالكثير من التجارب وطرق التعليم التي قد يستغرب لها أحيانا، وربما لاحظت أحيانا أن المجتمع يقبل على التجربة الجديدة بشغف رغم الإحساس الكبير باحتمال فشلها وذلك فقط لأنها جديدة وإبداعية.

في أمريكا يتم كل عام تقديم أكثر من عشرة آلاف دراسة علمية في مجال التعليم معظمها يتم من خلال إقامة تجارب على طلبة المدارس الأمريكية، علما أن المدارس هناك تقبل على دخول هذه التجارب بحب كبير وربما دفعت بعض المال كدعم للدراسة العلمية.

هذا في النهاية يجعل استعراض الأفكار المطروحة في تطوير المناهج الغربية أمرا واسعا جدا ولا يتسع له مقال كهذا.

لكن الجميل في هذا أن المجتمع الغربي يناقش مشاكله بشكل مفتوح ويدرسها علميا ويحاول أن يجد الحلول لها وأن يقوم بتجربة هذه الحلول ودراسة مدى نجاح وفشل التجربة، وتجد هذا واضحا حتى  مع مشاكل يعتبرها عموم الناس من النسيج العادي للعمل التعليمي مثل أثر الفروق الطبقية المادية بين الطلاب على تحصيلهم العلمي وتحرش الطلاب ببعضهم ومشاكسة الطالب لأساتذته وغيرها مما أفرز أفكارا وحلولا في منتهى الجدة والروعة والكثير من الفعالية.

أحد الأمثلة التي يمكن طرحها هنا هو “الإجازة المدرسية”، فبالرغم من إيمان الجميع بأهمية الإجازة للطالب والمدرس على حد سواء إلا أن الدراسات العلمية لاحظت أن مستوى ذكاء الطالب وقدراته التحصيلية والإنتاجية والخصائص النفسية الجادة تقل بعد الإجازة الطويلة عما كانت عليه قبل الإجازة.

الحل كان في الإجازات المتعددة بحيث تأخذ المدرسة إجازة لمدة أسبوعين كل شهر ونصف وطبقت هذا الحل العديد من المدارس الأمريكية بمراقبة من الباحثين، وكانت الإيجابيات رائعة في الارتفاع بقدرات الطلاب والحفاظ على حيويتهم بشكل دائم مع كثرة الإجازات، ولكنها في نفس الوقت أزعجت الأسر والمدرسين الذين لم يعودوا يعرفوا كيف يخططوا لإجازاتهم، كما زادت من تكاليف تشغيل المدارس ومنعت الطلاب من الحصول على العمل الصيفي _ وهو أمر يهتم به الأمريكيون لأنها عامل مهم في توظيفهم في المستقبل في المجال الذي تدربوا عليه صيفيا _ وغيرها من السلبيات، وفيما اختارت بعض المدارس المضي في التجربة طمعا في الإيجابيات عدلت مدارس أخرى عن ذلك خوفا من السلبيات.

هناك أيضا تجربة شهيرة أخرى مرتبطة بالواجبات المنزلية، فالدراسات الكثيرة في هذا المجال وجدت أن الواجبات المنزلية لها أثر سلبي على قدرة الطالب على الإبداع بسبب إنهاكها لقدراته العقلية وأخذها لمعظم وقته، ولكنها وجدت في نفس الوقت أن عدم إعطاء الواجبات للطلاب يجعلهم في فراغ كبير طوال اليوم وكان هذا سيئا جدا بالنسبة للطلاب الذين لا يعيشون في أسر محترمة تضبطهم وتوجههم نحو بناء أنفسهم بشكل سليم.

الدراسات أيضا جعلت الغربيين يهتمون كثيرا بمرحلة التعليم الابتدائي التي ثبت أثرها الكبير على الطالب، كما جعلتهم يهتمون كثيرا باستخدام وسائل الإيضاح في التعليم والتفنن في ذلك، وقامت شركات أمريكية ضخمة متخصصة في هذا المجال بسبب اهتمام المدارس بمنتجاتها “الإيضاحية”.

ولأن الدراسات العلمية انتبهت بشكل واسع لأثر المشكلات الاجتماعية والنفسية للطالب على تحصيله العلمي اهتمت المدارس الأمريكية على تنوعها بإدارات الإرشاد الاجتماعي داخل هذا المدارس، مما أنعش أقسام علم النفس والاجتماع في الجامعات الأمريكية مع رغبة الطلاب في هذه الوظائف ذات الرواتب الجيدة.

والدراسات بمجملها جعلت الغربيين يدركون أهمية التعليم ما قبل الجامعي الأساسية في بناء المجتمع وجعلتهم يدركون أهمية الإنفاق المادي على القطاعات التعليمية، حيث يبلغ معدل الإنفاق على التعليم قبل الجامعي في الدول الصناعية الثمانية عشرة الأولى ما نسبته 5.8% من الدخل القومي، ويتصدر الإنفاق السويد والنرويج ثم كندا التي تنفق 6.9% من دخلها القومي على التعليم مع أعلى نسبة إنفاق في العالم على التعليم ما بعد الابتدائي وأقل من الجامعي.

الأمر الآخر هو أن “ثقافة الإبداع” _ كما أسلفنا من قبل _ لا تحب حفظ المعلومات ولا تهتم بذلك، وهذا وصل بالمناهج التعليمية الغربية لوضع يختلف تماما عن المناهج العربية.

ففي الغرب هناك مفهوم واسع للتعليم في المدارس يقوم على “تعليم الطلاب ما يهيئهم للحياة الجامعية والعملية” تاركين تعلم المعلومات والنظريات والأفكار للمرحلة الجامعية فيما يتخصص فيه الطالب.

ولذا تجد في أمريكا موادا تعلم الطلاب القراءة الناقدة الفعالة للصحف ومواد تعلمهم التجارة وأخرى تعلمهم الخطابة وتعتبر مادة “المناظرات” التي تعلم الطالب النقاش وإقناع الناس برأيه مادة أساسية في كل المدارس الأمريكية بلا استثناء، كما تعلم المدارس الغنية طلابها كيف يشترون الأسهم ويفهمون المصطلحات الاقتصادية.

ولأن المعلومات جزء أساسي من حياة أي إنسان ناجح فإن المدارس الغربية تعلم طلابها التعامل الناجح مع المعلومات وتحاول غرس قدرات البحث العلمي التي تعلم الطالب البحث عن المعلومة.

وهذا ما يفسر الضعف الهائل لثقافة الطلبة الأمريكيين العامة وقدرتهم في نفس الوقت على النجاح في مختلف ضروب الحياة والإبداع فيها وقيادة الأمم الأخرى في هذه المجالات.

ومن المؤكد أن المدارس العربية يمكنها تعلم الكثير من “الرؤية الوظيفية” التي ترى أن كل ما يتعلمه الطالب لا بد أن يكون له وظيفة محددة في حياة هذا الطالب، بخلاف ما عرفه كل واحد منا في أيام الصغر من حشو الأدمغة بآلاف الكلمات والمعلومات والقوانين والتعريفات لتذهب مع الريح فور انتهاء الامتحان ولا يبقى إلا الجهل والفراغ والعجز على أي تميز ذا قيمة في الحياة إلا إذا رزق الطالب بعقلية فذة أو بأسرة ترعاه في الاتجاه الآخر.

لكن النظام التعليمي في الغرب لا يمكن فهمه فقط من خلال عوامل “ثقافة الإبداع” فهناك عامل آخر على درجة عالية من الأهمية: إنه النظام الديمقراطي_ الرأسمالي _ المتحرر.

لأن الدول الغربية دول “ديمقراطية” فإنك تجد أن لكل مجموعة صغيرة من المدارس مناهجها التعليمية الخاصة بها، ففي أمريكا على سبيل المثال يوجد مجلس تعليمي منتخب لكل ولاية أمريكية ومجلس تعليمي منتخب لكل مقاطعة _ تتكون الولاية من مجموعة مقاطعات كما تتكون المقاطعة من مجموعة مدن وقرى _ ومجلس تعليمي منتخب لكل مدينة ومجلس تعليمي منتخب لكل مدرسة “يشارك فيه غالبا الآباء ووجهاء الحي والمدرسين”، وهذه المجالس كلها تصنع مع بعضها تركيبة المناهج والأساليب الدراسية المتبعة في المدارس هناك.

لهذا ميزاته بالطبع، إذ أن هذا يعني المرونة التي تسمح لكل ولاية ومدرسة أن تأخذ ما يناسبها ويناسب أفكار آباء الطلاب، ويتضح ذلك بوضوح في مواد “الثقافة الجنسية” التي تهتم بها الولايات المتحررة وترفضها الولايات المتدينة وفي تدريس نظرية “داروين” الذي تمنعه عدة ولايات منها ولايات كانساس وأكلاهوما، بينما في نفس الوقت تستنكر مناهج بعض مقاطعات نيويورك أي تفسير ديني لخلق الإنسان.

لكن الاستقلالية لها عيوبها، ومن عيوبها أنها تمنع وجود النسيج العام الذي يحكم كل الناس ويجعلهم ينصهرون في بوتقة ثقافية واحدة.

كما أن هذه الاستقلالية صاحبها استقلالية “رأسمالية” فميزانية أي مدرسة تأتي من الضرائب التي يدفعها سكان الحي الذي تنتمي له المدرسة وهذه الضرائب ترتفع كلما زاد المستوى المادي للحي مما يعني أن المدارس في الأحياء الغنية تتمتع بميزانيات وإمكانيات عالية بينما المدارس في الأحياء الفقيرة تبقى فقيرة وعديمة الإمكانات، وهذا يعني في النهاية تلقى الطالب الغني لتعليم أفضل ووظائف أفضل فيما يبقى الفقير في فقره، وتجد هذا واضحا في حالة السود في أمريكا.

وقد وصلت الاستقلالية حدها الأعلى في تجربة بدأت في بريطانيا في عام 1988، ثم انتقلت كالنار في الهشيم للدول الغربية الأخرى حيث دخلت  نيوزيلاندا عام 1989، وأمريكا عام 1991، وكندا عام 1995، وبدت لهذه التجربة الكثير من الميزات التي جعلها الآن أخر موضة في عالم التعليم في الغرب.

تقوم هذه التجربة على منح المدارس استقلاليتها الكاملة بحيث تمنح المدرسة الميزانية الخاصة بها ويترك لها حرية أخذ كل القرارات وإدارة الموارد بنفسها بحيث يبقى الحكم الوحيد على صحة هذه القرارات هو النتائج التي يحققها الطلاب، وهذا باختصار يعني نقل نظام الجامعات في الغرب واستقلالها الذاتي إلى المدارس وإن كان في حالة المدارس يشرف على القرارات وتنفيذها ضمن الموارد المتاحة مجلس منتخب من آباء الطلاب والمدرسين.

النتائج في كثير من الأحيان كانت رائعة، حيث عنيت التضامن الكامل بين البيت والمدرسة في العملية التعليمية وعنيت الاستغلال الأمثل لموارد المدرسة بما يتوافق مع احتياجاتها وعنيت زيادة ميزانيات المدارس لأن الميزانية الضخمة التي تضيق في أروقة إدارات التعليم صارت تذهب للمدارس نفسها التي تدير العملية التعليمية كما عنيت تقليل الروتين والفعالية في اتخاذ القرارات.

أحد المدارس في لوس أنجلوس أنها وفرت مبلغ 1.2 مليون دولار في أول عام من تطبيق التجربة وأنها قررت إنفاق هذا المبلغ في تحضير معمل كمبيوتر ومعمل لغوي خاص بالمدرسة.

كانت هناك أيضا سلبيات وخاصة بالنسبة للأحياء الفقيرة التي يقل فيها التعليم مما عنى عدم قدرة الآباء على اتخاذ الآباء لقرارات تعليمية صحيحة فيما يخص أبناءهم.

هذه التجربة لم تدخل أيا من مدارس العالم الثالث لأن المدراء في العالم الثالث سواء كان ذلك في القطاع العام أو الخاص عرفوا بقدراتهم الضخمة على التفنن في خداع الناس سواء فيما يتعلق بالموارد أو ما يتعلق بالإنجازات، ولأن الناس في كثير من دول العالم الثالث عرفوا بفشلهم الذريع في تكوين المجالس المثمرة وخاصة حين يكون أعضاء المجلس عمرو وزيد من أبناء الحي.

لقد حرصت على وضع أفكار التطوير في المناهج في الغرب في إطارها الثقافي والفكري حتى ألفت النظر أنه لا يمكن نقل هذه التجارب حرفيا لأننا لن ننقل الإطار الفكري معها، ولكنني في نفس الوقت أدرجت الأهداف الأساسية لهذه الأفكار لأن وجود الهدف يدفعنا لإيجاد الأفكار التي تحققه من خلال إطاراتنا الفكرية والثقافية، ولعل وعسى..