ظاهرة نجاح البرامج الكوميدية على “يوتيوب” لا تخفى على أحد، والكل صار مطلعا على كونها تحقق أرقام مشاهدة هائلة، وهي أرقام موثقة ولا مكان للشك فيها، كما أنه لم يعد سرا أن هذه الفيديوهات تحقق أرباحا إعلانية مميزة مقارنة بشركات الإنتاج التقليدية الأخرى، وهو نجاح تجاري هائل إذا عرفنا أن عمر هذه الصناعة لا يتعدى ثلاثة أعوام فقط.
ما هو السر الذي جعل هذه الفيديوهات تستولي على اهتمام ومتابعة ملايين المشاهدين رغم صنعتها الإنتاجية المتواضعة، ورغم أن قنوات التلفزيون “تتطاحن” فيما بينها في السنوات العشر الأخيرة لإنتاج أعمال كوميدية كلفت مئات ملايين الريالات في مجموعها، وهذا لا يشمل ميزانيات التسويق التي عملت لجذب المشاهد لها.
هل هو فعلا حب الجديد فقط كما يقول البعض أم هناك فراغا معينا غطته هذه الكوميديا بشكل لم يستطع التلفزيون تحقيقه ؟
الهدف من هذا السؤال ليس جدلي فقط، فمعرفة نقاط قوة الإعلام الرقمي الجديد يسمح لنا بالتفكير بالاستفادة منها بأفضل شكل ممكن، حتى يستمر الأداء المميز ولا نسمح للنجاح المفاجئ أن يخلق نسخ مكررة من الأعمال تؤثر على ذلك النجاح بشكل سلبي.
في رأيي هناك أربعة أسرار لنجاح كوميديا اليوتيوب أسردها سريعا في هذا المقال:
- السر الأول: هو ما أسميه بـ”التلاؤم” (Relevance)، وهذا التلاؤم هو ببساطة مدى القرب من الجمهور وثقافته.
مشكلة عملية الإنتاج التلفزيوني أنها تستهلك دورة عمل طويلة تصل إلى تسعة أشهر من الفكرة وحتى انتهاء الإنتاج، وبيروقراطية الشركات التلفزيونية ودورة عمل الإنتاج لم تستطع تقليل هذه الفترة، وهذا يسبب ابتعاد الأعمال التلفزيونية الكوميدية عن حكايات الشارع وعن مصطلحاته اليومية والتي تتغير بسرعة خرافية، وفقدان قدرته على التعليق على الأحداث اليومية.
في دول كثيرة أدركت قنوات التلفزيون هذه المشكلة فركزت على ما يسمى بـ”البرامج الحوارية الحية الكوميدية” (Talk Shows) والاستثمار فيها بشكل واسع منذ أكثر من خمسة عقود زمنية، بينما المحاولات العربية ظلت هزيلة، ولذلك استطاع “البرنامج” لباسم يوسف أن يحقق نجاحا تلفزيونيا متناسبا مع نجاحه “اليويتوبي” بسبب تحقيقه لخاصية التلاؤم بشكل لا يقل جودة عن نظيره من البرامج الغربية، رغم تفاوت الإمكانات المادية.
عيب التلاؤم أنه يظهر بشكل أوضح في الكوميديا بينما يقل وضوحه في أنواع الإنتاج الأخرى، ولذلك ما زالت المنافسة محسومة لصالح التلفزيون في الإنتاج اليوتيوبي غير الكوميدي حتى الآن.
- السر الثاني: فئات الجمهور
بالنسبة للتلفزيون فهو مضطر لكسب أكبر قدر من فئات الجمهور، حتى يستطيع كسب المعلن، وهذا يعني التخلي عن مخاطبة الجمهور المحلي جدا والضيق، وهذا مرة أخرى يقلل من التلاؤم، ويعطي ميزة كبيرة لبرامج “يوتيوب” على أنواعها، لأنه حتى عندما تتكلم عن الاهتمامات الخاصة والتي تهم مجموعة صغيرة من الجمهور، تجد التلفزيون غير قادر على مخاطبتها، والمعلن غير قادر على دعمها، بينما على “يوتيوب” يمكن ذلك بالتأكيد، ويمكن الحصول على المعلن – لأن التكلفة منخفضة – ويفترض نظريا أن يفرح المعلن بذلك لأنه في خطط التسويق، تجد الشركات صعوبة في الوصول لنوعيات الجمهور المتخصصة، وهذه الميزة هي من أكبر عوامل النمو السريع للإعلان الرقمي الجديد، وهي أيضا ميزة لم تستغلها إنتاج “يوتيوب” السعودية بعد بما يكفي.
- السر الثالث: المشاهدة حسب الطلب
لقد تغيرت ذائقة الجماهير في أنحاء العالم، وصار انتظار جدول تلفزيوني معين لمشاهدة برنامج أو مسلسل أمرا أقل قبولا، وبالتالي صار التلفزيون أمرا لشغل وقت الفراغ عبر تقليب القنوات أو مهما لمتابعة الأحداث الحية “الأخبار، المباريات الرياضية، البرامج الضخمة”، بينما استطاع “يوتيوب” وكافة أشكال المشاهدة حسب الطلب على الموبايل والإنترنت أن يصبح الأكثر تفضيلا، ولا دليل على ذلك مثل حقيقة أن السعوديين وحدهم يشاهدون 90 مليون فيديو يوميا على “يوتيوب” فقط فضلا عن باقي منصات المشاهدة حسب الطلب.
واحد من أسباب تسريع هذا النجاح بشكل غير متوقع سابقا هو الشبكات الاجتماعية حيث أصبح تناقل فيديو بين الناس أمرا شائعا، وهناك أدلة موثقة على جاذبية خرافية لتناقل ملفات الفيديو، وهذا يخدم فقط المشاهدة حسب الطلب.
هناك أيضا كما هو معروف الانتشار السريع لأجهزة الموبايل الذكية وخاصة في دول الخليج واستخدامها في مشاهدة برامج يوتيوب “76% من مشاهدات يوتيوب في السعودية تتم عبر الأجهزة الذكية”.
- السر الرابع: قصر المادة “اليوتيوبية”
وهذا موضوع واسع وفيه تشعبات أخصصها لمقال آخر، لأن الاتجاه العالمي هو الاتجاه للمادة القصيرة، وهذه معاناة خاصة للشبكات التلفزيونية والتي بنت نفسها بنمط تقليدي جدا من حيث جدولة البرامج وبيع الإعلانات ورصد عدد المشاهدين بحيث يصبح تقليل طول المادة التلفزيونية إلى 10 دقائق مشكلة وذات أثر سلبي ماليا على القنوات.
في اعتقادي أن قنوات التلفزيون العربية ستظل تعاني مالم تأخذ قرارات جدية لحل هذه المشكلة، لأن قدرة الجمهور على متابعة المادة الطويلة تتناقص بسرعة لايتصورها أحد حسب ما توضحه الدراسات العالمية عموما.
لكن كيف يمكن خلق برنامج “يوتيوبي” ناجح ؟ ما هي الوصفة والمقادير والمعايير ؟ لماذا يفشل البعض وينجح آخرون ؟ هل يكفي فقط المقدم النجم لتحقيق النجاح أم ماذا ؟ التفاصيل إن شاء الله في مقال قادم..
أما الآن فبعد قراءة المقال والذي تقرأه في الغالب على الإنترنت أو الموبايل، فخذ لك جرعة عشر دقائق من الكوميديا الناعمة المحلية مع “لا يكثر” أو “التاسعة إلا ربع” أو “على الطاير” أو غيرها عشرات من البرامج، وابتسم فأنت في عصر الإعلام الجديد..!
* نشر المقال في جريدة الوطن السعودية