لما فاز الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2008، قال كثير من المحللين بأن جزءا أساسيا من انتصار أوباما كان استخدامه المكثف والذكي لمواقع الإنترنت في إيصال رسالته وحشد أنصاره وخلق حالة شعبية من التكاتف ضد الجمهوريين بشكل عام، وحينها قال المحللون بأن أوباما مثل حالة فريدة من نوعها في هذا الاستخدام الذي انتهى بنصر تاريخي لا يتكرر.
لكن الأمر ليس كذلك تماما، فأوباما كان محظوظا لأنه شارك في أول انتخابات رئاسية أمريكية جاءت بعد “انفجار” مواقع الشبكات الاجتماعية _ وخصوصا “فيسبوك” و”تويتر” _ وبعد وصول عدد مستخدمي الإنترنت في أمريكا إلى نسبة جماهيرية ساحقة، وهذا لا يعني أنه لا يستحق بعض المديح، فمنافسه جون ماكين شارك في نفس الانتخابات وفشل في تحقيق ذلك النجاح الإلكتروني الأوبامي، إذا صح التعبير، أوباما جاء أيضا بعد نضج مميز في طرق استخدام الإنترنت في الحملات الانتخابية الأمريكية.
في عام 1998، حصلت على الماجستير من جامعة أمريكية، وكان تركيزي البحثي على استخدام أعضاء الكونجرس الأمريكي للإنترنت في حملاتهم الانتخابية، وكانت الأمور في بداياتها فقط، وكان التفكير في المفاهيم الأساسية التي تحكم مثل هذا الاستخدام السياسي للقادم الجديد _ كان عمر الإنترنت التجاري أربع سنوات فقط!، ولكن عبر عقد من الزمن، حصلت جهود مكثفة من تطوير استراتيجيات وآليات وأفكار استخدام الإنترنت في الحملات الانتخابية من عدد هائل من الأكاديميين والمستشارين السياسيين بالإضافة لمجانين الإنترنت، مما خلق في النهاية نضجا مبهرا في فهم استخدام الإنترنت كأداة سياسية، وجاء أوباما في 2008 ليستخدم كل هذا التراكم المعلوماتي ليطبقه عمليا من خلال حملة إلكترونية بدت كالأوكسترا الموسيقية الضخمة التي تعمل آلاتها كلها سويا وبإنسجام بالغ لتخلق لحنا موسيقيا واحدا يغني باسم المرشح الطموح القادم، والذي صار أول رئيس أمريكي غير أبيض للدولة التي تقود العالم.
لكن الدرس الأكبر من كل هذا ليس أوباما بل الانتقال الحقيقي للحملات الانتخابية من عالمها الكلاسيكي إلى عالمها الإلكتروني، وهو انتقال يبدو وكأنه لا عودة منه، وسيكون له تأثير كبير على نظم السياسة والديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، وتركت أثرها على مختلف أنواع الحملات الانتخابية، ولعل من تابع كيف استخدم الإنترنت من قبل المرشحين لمجلس الغرفة التجارية الصناعية في جدة في أكتوبر 2009 يدرك تماما أن فهم الإنترنت والتعامل معه صار بلا خلاف العامل الحاسم في صناعة النجاح الانتخابي.
طبعا هذا له إيحاءاته الإيجابية والسلبية، ومن إيحاءاته السلبية والتي تمثل مصدر إزعاج للمفكرين والمحللين السياسيين والقانونيين حول العالم أن الإنترنت لا يمكن التحكم به كما هو الشأن مع عالم الإعلام الكلاسيكي، ففي أمريكا مثلا _ شأنها شأن مختلف دول العالم _ هناك قوانين عما يمكن للمرشح الانتخابي قوله، وكيف يمكنه أن يهاجم خصمه، وإلى أي حد يستطيع أن يكذب أو يبالغ، وهذه القوانين كانت لها أهمية خاصة في الحفاظ على التوازن في العملية الديمقراطية.
في عالم الإنترنت، كل هذه القوانين فقدت معناها الفعلي، وصار استخدام الإنترنت في نشر الشائعات والتأثير على الخصوم من خلالها في غاية السهولة، كما صار تحديد مصدر رسالة معينة صعبا جدا، مما ساهم في تدني المسؤولية الاجتماعية السياسية للمرشحين الانتخابيين إلى أقل حد ممكن.
الإيحاء السلبي الآخر أن تركيز الناخبين المتزايد تدريجيا على الإنترنت يساهم في عزلة أولئك البعيدين عن الاستخدام اليومي للإنترنت بشكل أو بآخر، وهذا أمر سيقل تأثيره السلبي تدريجيا إلى أن ينقرض آخر شخص لديه “أمية إلكترونية”..!
لكن الإيحاء الإيجابي الهام هو أن الإنترنت بطبيعته يفرض تقديم كمية مكثفة من المعلومات، ويفرض على المرشح الانتخابي التفاعل المميز والشخصي مع الجماهير، وهذا ما فعله أوباما تماما، حين طبق ما يقوله الباحثون بأن النجاح على الإنترنت يختلف عن التلفزيون، فبقدر ما يحب التلفزيون العبارة المختصرة الجذابة والمبسطة، يحب الإنترنت المعلومات الكثيرة وإن كانت مبسطة أيضا، وبقدر ما يعتمد التلفزيون على الصورة والإبهار، فإن الإنترنت يريد من المرشح الانتخابي أن يتحدث مع الجمهور بشكل شخصي ويجيب على “تعليقاتهم” بذكاء يعادل ذكاء مستخدم الإنترنت عموما.
خلال الأشهر القادمة ستكون هناك عددا من الجولات الانتخابية الهامة في العالم العربي، وسيكون ممتعا أن نراقب كيف سيستخدم المرشحون الإنترنت والإعلام الاجتماعي في ترويج رسائلهم وبناء صورتهم الذهنية، وخاصة أننا في العالم العربي نملك ثقافة انتخابية خاصة بنا فيها الكثير من الزيف بالإضافة للكثير من الحساسيات والتعقيدات المثيرة بكل ما تعنيه الكلمة.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية