ساهمت أزمات سوق الأسهم في السعودية وغيرها من دول الخليج العربي في فتح العيون على حقيقة مرة: الصحافة هي آخر من يعلم، وإذا تحدثت في الاقتصاد فهو في الغالب حديث خال من الخبرة ولا يزيد عن أحاديث عامة الناس في تحليل سوق الأٍسهم.
لقد فقدت الصحافة الخليجية بسبب أسواق المال فرصة أخرى لكسب مصداقيتها لدى القارئ الخليجي، بل إن كثيرا ما يتندر الناس بواقع الملاحق والصفحات الاقتصادية، وصار كثير من الناس مستعدا لاستقاء معلوماته من المنتديات المفتوحة التي يكتب فيها كل من هب ودب، ولا يستقيها من الصحف والملاحق الاقتصادية.
في مقال عاصف كتبه خبير النفط المعروف د. أنس الحجي، في جريدة الاقتصادية بعد قمة “أوبك” في الرياض، تناول فيه التغطية الإعلامية لقمة “أوبك”، واستنتج أن التغطية كانت مليئة بالفضائح والجهل والمعلومات غير الصحيحة والأسئلة الغبية من الصحفيين، وإذا كانت التغطية الإعلامية للنفط الذي يمثل عمود الاقتصاد السعودي بهذا الشكل، فلا غرابة إذن إذا كانت تغطية القطاعات الاقتصادية الأخرى أسوأ وأضعف.
إن أي تحليل مضمون لأي من الملاحق والصحف الاقتصادية المتخصصة في الصحف الخليجية عموما سيجد أن محتواها لا يتجاوز بيانات العلاقات العامة الصادرة عن الشركات ومقالات الرأي _ والتي يكتبها الأكاديميون عادة وليس الصحفيين _ وتقارير عن سوق الأسهم تشبه تغطيات البطولات الرياضية حيث تصف من فاز ومن هزم، ومن يتوقع أن يفوز اليوم ومن يتوقع أن يهزم، وبعض الحوارات الهزيلة بأسئلتها ومعلوماتها.
وصفحات الاقتصاد لدينا لا تشارك في تقديم المعلومات في أي من مجالات الاقتصاد والأعمال الخليجية الحيوية، فمثلا تجد مساهمة الصحافة الاقتصادية في تطوير قطاع العقار أو حتى تغطية قضاياه بعمق وشمولية محدودة جدا، ولا تتجاوز تغطيته الصحفية في معظم الأحيان أخبار المشروعات الجديدة وبعض التقارير والتحقيقات السريعة.
بالمقابل، تتربع جريدة “وول ستريت جورنال” كأكثر جريدة مبيعا في أمريكا رغم أنها اقتصادية متخصصة مكتوبة بلغة متخصصة وخالية تقريبا من الصور، وذلك ببساطة لأن أي رجل أعمال أو موظف في قطاع اقتصادي في أمريكا لا يستطيع أن يمضي الساعات الأولى من يومه دون أن يقرأ الجريدة صفحة صفحة.
إن الصحافة الاقتصادية أساس في تطوير قطاع الاقتصاد في أي مجتمع، وذلك لأن العمل الاقتصادي والتجاري عموما يحتاج إلى المعلومات الموثقة ويحتاج إلى التحليل الدقيق ويحتاج إلى الرؤية التي تضيء الطريق في وسط آلاف الخيارات كل يوم.
عندما تكون الصحافة الاقتصادية في بلد ما ضعيفة فهذا ببساطة معناه أن أساسا هاما في التطوير الاقتصادي قد فقد من الصورة، ويشرح لماذا نعاني من مشكلات كثيرة في الرؤية الاقتصادية في دول الخليج.
بل إن بعض النظريات الاقتصادية الحديثة توقعت أن يندمج الإعلام مع الاقتصاد في وسيلة واحدة لأن الاقتصاد هو عبارة عن معلومات يتداولها رجال الأعمال ومن يساهمون في التأثير على الاقتصاد بشكل أو بآخر تنتهي في النهاية بعقود تجارية يمكن أن تتم عن بعد من خلال وسيلة الإعلام التفاعلية نفسها “الإنترنت أو الموبايل أو التلفزيون التفاعلي”.
إن تخيل مدى قدرة الاقتصاد العربي على التحول لهذا النموذج يذكرنا بأزمة أخرى تؤثر على الاقتصاد كما تؤثر على الإعلام الاقتصادي وهو ندرة قواعد المعلومات التي تحتوي على كافة المعلومات الاقتصادية التي يحتاجها الشخص صانع القرار أو الإعلامي، وحتى لو وجدت قواعد المعلومات فإن الأبحاث والدراسات والإحصائيات ما زالت محدودة جدا وضعيفة المصداقية مقارنة بما هو متوفر عن مختلف القطاعات الاقتصادية في الدول الغربية ودول آسيا المتقدمة.
حتى نستطيع تأسيس قواعد معلومات مميزة سواء عامة أو متخصصة نحتاج لثقافة “جارفة” تسيطر على الجميع ويسود فيها حلم الاستمتاع بوفرة المعلومات، ثقافة تعرف أن المعلومة هي خير ما يمكن أن يساعد على القرار الصحيح، وأن الأمة التي لا تملك قواعد منظمة للمعلومات بأنواعها هي مثل الكتاب الذي لا يحمل عناوين ولا فهارس.
ليس ذلك فحسب، تقول أحد التقارير الغربية، صدر عام 1993، بأن نصف الوظائف في المجتمعات الصناعية قائم على المعلومات، وهذا يعني أن طريقنا إلى التقدم لا بد أن يمر بالمعلومات التي ما زالت في عالمنا العربي شحيحة، غير منظمة، غير موثقة، بلا معايير محتوى واضحة، وتتأثر في جمعها وتصنيفها بأهواء الأشخاص، وأخيرا لا ترعاها جهات حكومية أو تجارية بالجدية اللازمة.
وإذا كنا نفهم سبب الكسل البيروقراطي للحكومات في تبني قواعد المعلومات، فما لا أفهمه عندما تشعر بأزمة صانع القرار العربي في القطاعات الحكومية والتجارية في إيجاد المعلومة اللازمة لاتخاذ قرار صحيح دون أي تحرك ذي معنى لعلاج هذه الأزمة، وهو ما يجعلني أعتقد جازما أن “إيمان” صناع القرار بأهمية المعلومات ما زال محدودا.
الصحافيون الاقتصاديون نادرون!
حتى مع التسامح مع المواصفات المميزة للصحفي الاقتصادي والتي تمكنه من القيام بدور ريادي والقبول بميزات الصحفي العادي، الذي يجيد كتابة التحقيقات الصحفية العادية عن سوق الأسهم والقطاعات الاقتصداية الأخرى، فإن إيجاد مثل هذا الشخص في سوق العمل العربي في غاية الصعوبة، الأمر الذي ساهم في رفع رواتب الصحفيين في قطاع الاقتصاد وقلل من إقبال رجال الأعمال على الاستثمار في الصحافة الاقتصادية.
“مطلوب صحفي اقتصادي” هي عبارة يتداولها الزملاء يمنة ويسرى بحثا عن الشخص المناسب بدون أمل تقريبا في إيجاد الصحفي المميز الذي يعرف كيف يكتب ويفهم أصول المهنة، وفي نفس الوقت يجيد التعامل مع المعلومات الاقتصادية المتخصصة، ويستطيع أن يقدم تقارير خالية من الأخطاء وتساعد القارئ على الفهم الذكي للمعلومات.
هناك صحفيون جيدون لا يفهمون من الاقتصاد إلا إعادة صياغة بيانات العلاقات العامة الصادرة عن الشركات، وهناك محللون اقتصاديون جيدون _ رغم ندرتهم _ لا يستطيعون صياغة المعلومات بشكل مقروء، ويقف بينهما مدير المشروع الإعلامي عاجزا عن الحل.
نحتاج لقواعد المعلومات، ونحتاج للأكاديميات التي تعد الأشخاص الذين يحللون المعلومات، ونحتاج للتدريب المميز للصحفيين الاقتصاديين، نحتاج للكثير حتى نستطيع اللحاق بقطار المعلومات الذي تزداد سرعته عاما بعد عام، وتزداد الفجوة بيننا وبينه مع ازدياد السرعة.
نحتاج لـ”الإيمان” بأن هناك مشكلة هائلة تبحث عن حل !!