فارس الحوار السياسي الذي ترجل!

من قسم شؤون إعلامية
الأحد 22 يونيو 2008|

عندما يكون المحاور التلفزيوني ذكيا موضوعيا مثقفا هادئ النفس منطقي الحجة فهو يمنحك وقتا ثمينا لا يعوض، والعكس صحيح تماما.

لقد كان لصباح يوم الأحد في أمريكا نكهة خاصة عندما يتسنى لك الاستيقاظ لمتابعة برنامج “التق مع الصحافة” Meet the Press على قناة NBC مع المحاور الرائع تيم روسيرت، الذي وافته المنية قبل أيام.

بدأت هذه العادة منذ عام 1997، وأستطيع القول بأن تيم روسيرت، كان الأجمل والأروع بين كل المحاورين السياسيين الذين شاهدتهم على الإطلاق على أي من شاشات التلفزيون في العالم.

هذا ليس رأيي أنا وحدي، فوفاة روسيرت، بينما هو يعمل في مكتبه بسكتة قلبية كانت صدمة للملايين الذين يتابعونه وللمجتمع الإعلامي الأمريكي والعالمي الذي كان ينظر إليه كقدوة مميزة في الحوار السياسي.

وبرامج الحوار السياسي لا تميز الشاشات الأمريكية والأوربية وحدها، بل هي تميز عددا من الشاشات العربية، ولذا اخترت الحديث عن عملاق الحوار السياسي، لأن برامج الحوار السياسي لدينا تمثل سلسلة من الفشل الإعلامي الواحد بعد الآخر، تصيبك في النهاية بالغثاء وتقرر ألا تشاهد أيا منها، بل أكاد أدعي أنها سبب من الأسباب في ضحالة الثقافة السياسية لدى الشارع العربي.

في أمريكا، هناك كثير من المحاورين السياسيين المميزين على الشاشات الأمريكية مثل لاري كينج، وتيد كوبل، وولف بليتزر، ولكن تيم روسيرت، من بين هؤلاء كلهم يبدو كعملاق من نوع خاص.

تميز روسيرت، بالدرجة الأولى بحياديته المطلقة، فمن الصعب عبر السنين من متابعة روسيرت، أن تعرف أين يقع هو شخصيا وما هي آرائه، وهذا ما جعله الرجل ذي المصداقية الأعلى وما جعل الأحزاب الأمريكية تختاره لإدارة مناظرات الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

لكن روسيرت، لا يقف على الحياد لأنه لا يعرف كيف يصنع رأيا لنفسه، بل لأنه يقف موقف المشاهد تماما، وهو ما يفترض فعله بأي محاور تلفزيوني، ولأن المشاهد المثالي يريد أن يعرف الحقيقة بدون تزييف.

كان روسيرت، يقود حوارا في منتهى الذكاء والمنطقية يقود فيها ضيوفه من سؤال منطقي إلى سؤال منطقي آخر خلال ساعة كاملة تنتهي بكشف هادئ للقضية وخيوطها وأعماقها.

كان ضيوف روسيرت، يعتبرونه محاورا مريحا لأنه لا يتشنج ولا يبحث عن مجده الشخصي على الشاشة كما يفعل لاري كينج، وتيد كوبل، وليس لديه تحيزاته الشخصية مثل ولف بليتزر، ولكنه بالمقابل محاور متعب جدا لأنه يسألك كالطفل الصغير الذي يريد أن يعرف كل شيء من البداية، وهو أيضا مثقف غير عادي ولذلك من الصعب جدا التلاعب معه.

تشاهد الحوار وقد لا تعرف عن الموضوع شيئا، وتنتهي الساعة وأنت تعرف كل تفاصيلها بسبب طريقة الحوار الرائعة.

اشتهر روسيرت، بتحضيره المكثف لحواراته، وعمله لساعات طويلة بلا كلل ولا ملل، وهو حاصل على بكالوريوس علوم سياسية وماجستير قانون و48 دكتوراه فخرية، وكتبه هي من الأكثر مبيعا في أمريكا، بل إن “أحد أعظم اللحظات في تاريخ التلفزيون” كما يقول أشهر متاحف واشنطن هي عندما أمسك روسيرت، بلوح أبيض على شاشة التلفزيون وعمل بعض الحسابات على الشاشة ليقول للجمهور بأن فلوريدا ستكون ساحة النزال في انتخابات عام 2000، وهو الأمر الذي ثبت صحته بعد ذلك.

قارن الآن بالمحاورين السياسيين العرب الذين يتميزون بضحالة الثقافة وضعف التحضير والانحياز الواضح، والأدهى والأمر أن ثقافة كثير منهم لا تزيد عن ثقافة رجل الشارع العادي، نفس التعميمات، نفس الاستنتاجات الشعبية السياسية العامة، نفس الروح العاطفية، وفي النهاية برنامج لا يسمن ولا يغني من جوع إلا إذا كان الضيف من الذكاء بحيث يستفيد من مدة البرنامج في تمرير بعض العبارات والأفكار المثيرة.

أعرف أن عبارتي فيها الكثير من المرارة وبعض التحامل وهي عبارة عامة ولها استثنائاتها، ولكنها تمثل الإحباط الذي تتركه فيك البرامج السياسية الحوارية العربية عبر السنوات.

الغريب أن هذا الضعف يأتي بالرغم من ثراء المشهد السياسي العربي الذي لا يكاد يخلو أسبوع من قضية كبرى للنقاش السياسي.

لأولئك الذين لا زالوا يريدون أن يستمتعوا بحوار سياسي ذكي ومنطقي ومثقف وجميل بعد وفاة تيم روسيرت، أنصحهم بمتابعة بريان ويليامز، على شاشة NBC فهو الرائع رقم 2 في الحوار السياسي وغير السياسي، نفس الهدوء والثقافة والحيادية، وإن كان يفقد اللمسة النهائية التي كان يملكها تيم روسيرت.

اللطيف أن ويليامز، مثل روسيرت تماما، من نيويورك من أصل إيرلندي، وكلاهما اختارته مجلة تايم الأمريكية كأحد أكثر 100 شخصيا تأثيرا في العالم.

سامحوني لأنني تحدثت عن إعلام دولة أخرى قد لا يطلع عليه معظم القراء الكرام، ولكنني وجدتها فرصة للحديث عن نموذج نادر وأيضا للتعبير عن نقدي الحاد واللانهائي للمحاورين السياسيين العرب على شاشاتنا الفضائية.

أتمنى أن يكون لدينا يوما فارس للحوار السياسي العربي..

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية