كل أمة من الأمم لديها ما يسمى “الثقافة التعليمية” وهي تمثل كيف ينظر المجتمع للتعليم وعناصر عملية التعليم والمعلم وأهداف التعليم ووسائله، والثقافة التعليمية طبعا هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع.
في رأيي الشخصي، يمكن تقسيم الثقافة التعليمية إلى قسمين: ثقافة الذكاء وثقافة الإبداع، أي أننا يمكن أن نقسم الأمم إلى قسمين، قسم يميل إلى تقدير الذكاء كعامل حيوي في تقييم جودة التعليم، بينما يميل القسم الآخر إلى اعتبار الإبداع أكثر أهمية من الذكاء.
في ثقافة الذكاء يكون هناك تركيز عال على مدى قدرة الطالب المعلوماتية والمعرفية وقدرته على التعامل مع مسائل الرياضيات والفيزياء وغيرها وقدرته على “فصفصة” المناهج الدراسية وإدراك عميقها والخفي منها.
في ثقافة الذكاء يكون “الذكي” هو المقدر والمتفوق في المؤسسات التعليمية وأحيانا في المؤسسات الاجتماعية على اختلافها.
تجد هذا النموذج في دول آسيا عموما بما فيها الدول المتقدمة كما تجده في جميع الدول العربية مع التفاوت في المناهج المتبعة لتحقيق ذلك وفاعليتها.
أما ثقافة الإبداع فهي معنية بمدى قدرة الطالب على الإتيان بالجديد المميز.
في هذه الحال تتغاضى المؤسسات التعليمية عن إتقان الطالب العلوم مقابل تشجيعها الواسع لقدرته على الإبداع والتجديد والإتيان بالرأي الخاص غير المسبوق، كما تشجع اختلاف الآراء وتنوعها ولا تحاول رفض الرأي الغريب غير المتعود عليه.
هذا النوع من الثقافة شائع في بعض دول أوروبا، خاصة منها الدول الاسكندنافية، كما أنه الأصل المتبع في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
ولا يمكن بحال الادعاء أن إحدى الثقافتين أفضل من الأخرى، فكلتاهما له سلبياته وإيجابياته، وإذا كانت إحدى الدراسات العلمية الأمريكية قد وجدت أن الأطفال المبدعين متفوقون على الأطفال الأذكياء في الإنتاج والتعامل مع المشكلات، فإن هذه الدراسة قد تأثرت بكونها قد أجريت في مدارس أمريكية مبنية على ثقافة الإبداع مما يقلل من موضوعيتها.
لكن يبقى نوع الثقافة وما تعنى به من أهداف أمرا أساسيا لفهمها وتقويمها.
ولعل النموذج الأمثل لتطوير الثقافة يكون بإجراء تعديلات على هذه الثقافات للخروج بثقافة معتدلة في الوسط لها إيجابيات ثقافة الإبداع وثقافة الذكاء في آن واحد.
المشكلة التي تقف في وجه خلق الثقافة المعتدلة أن “الثقافة” تقوم عادة على معتقدات ووجهات نظر ترسبت في النفوس على مر السنين ويصعب تغييرها، ولذا فإن كل المحاولات السطحية التي حاولت التقليل من حجم التلقين في نظام المدارس العربية باءت بالفشل الذريع لأنها تحاول أن تقول للمجتمع أن الطفل الذكي الذي يحفظ كل المعلومات ليس متفوقا حقا، وهذا يخالف ما يؤمن به الناس ويشد إعجابهم نحو الأطفال في العالم العربي منذ أمد بعيد حين كان “الحافظ” والرجل الموسوعي مثيرا لإعجاب الناس وتقديرهم.
حتى الأمريكيون يسعون كل عام إلى رفع مستوى طلابهم العلمي في الرياضيات والأدب “وهو متدن جدا” ويتحدث كل رئيس أمريكي عن إحباطه للنتائج السنوية التي يحققها الأمريكيون في هذا المجال رغم عنايتهم القصوى بالتعليم، ويحاول الكونجرس الأمريكي إيجاد الوسائل التي تزيد من اهتمام الأمريكيين بحفظ المعلومات ولكن محاولاتهم تبوء بالفشل لأن الأمريكيين لا يدهشهم الشخص الذي يجيد حل المسائل أو حفظ المعلومات مادامت المعلومات موجودة في الكتب وعلى شبكة الإنترنت ومادام حل المسائل ممكنا بالكمبيوتر ومن خلال قلة من المختصين وبالاستعانة بالكتب.
ما يدهش الأمريكيين هو الإتيان بالجديد مهما كان غريبا ومخالفا للأعراف، وهذا ينعكس على النظم التعليمية شاء البيت الأبيض ذلك أم لم يشأ.
المسألة المهمة بعد هذا الاستعراض العام للقضية أن القطاعات الاقتصادية على اختلاف أنواعها وفي مختلف أنحاء العالم تتجه لتقدير الإبداع والفكرة الجديدة، بدلا من تقدير الذكاء في العمل، وذلك ببساطة لأن الإنتاج المتقن للعمل صار سهلا في ظل التطور التكنولوجي والاتصالي ووجود معايير العمل وفي ظل إمكانية التعاقد من أجل العمل مع أي شركة في الهند أو الصين أو حتى اليابان للقيام بالعمل، بينما تبقى الأرباح والتفوق في المنافسة للشركة التي استطاعت طرح أفكار جديدة وتسويقها عالميا.
تقول إحدى الدراسات إن ارتفاع أسهم الشركات الـ500 الأكثر أهمية في أمريكا Fortune 500 companies، مرتبط دائما بإعلان منتجات وخدمات جديدة، وكلما كانت الفكرة أكثر إبداعا زاد تأثيرها في السوق ورفع أسعار أسهمها.
لو صح كل ما سبق، فإن النتيجة الوحيدة التي تنبني عليه هي أهمية قيام مبادرات ضخمة لإجراء تحويل اجتماعي عام نحو “ثقافة الإبداع”، تحويل يبدأ من العملية التعليمية، إلى تغيير مفاهيم الآباء والشركات والجامعات، إلى مختلف قطاعات المجتمع.
بمعنى آخر نحتاج لتحول من الاهتمام بـ”النابغين” إلى “المبدعين”، ومن “التلقين” وحتى “الفهم” إلى “الابتكار”، ومن التركيز الهائل على الاختبارات إلى المعارض المدرسية للأفكار على أنواعها.
قد يتعذر أن يتحول المجتمع عبر سنوات قليلة لتكون ثقافته ثقافة إبداع متكاملة، ولكن إجراء عملية تجميل سيساعد الاقتصاد القومي ولا شك على اللحاق بالتطور الاقتصادي العالمي.
الإبداع يجعل الحياة مليئة بالحيوية وسحر الاختراع، ومجتمعاتنا بحاجة للكثير جدا من هذا السحر.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية