عندما تدخل إلى أحد المكتبات الكبيرة في عاصمة عربية تجد مجموعة هائلة من المجلات، لا شيء منها يصلح للقراءة إلا القليل جدا الذي لا يتجاوز عدد الأصابع بينما البقية عبارة عن صور وحروف مصفوفة.
بالمقابل؛ يدرك أولئك الذين أنعم الله عليهم بفرصة استهلاك المجلات الأوروبية والأمريكية أن هناك متعة عظيمة لا تكاد تبدأها حتى تشعر بأنك فقدت الاتصال بما حولك وخضت في عالم جميل وأنت تقرأ المجلة من الغلاف إلى الغلاف، وفي ثنايا كل صفحة الكثير جدا مما يمتعك وتستفيد منه ويساهم في تكوين ثقافتك حول التخصص الذي تتناوله المجلة.
ليس للأمر علاقة كبيرة بنجاحهم وفشلنا بقدر ما لها علاقة بثلاثة عوامل أساسية:
- العامل الأول والأقل أهمية هي الإمكانات المادية، فسوق الإعلان العربي ضعيف، والمعلن لا يحب المجلات كثيرا _ ولا لوم عليه ولا تثريب _ لأن استهلاكها محدود، ولذلك تجد أن المجلات التي في القمة موجهة في الغالب للمرأة فيقبل عليها قطاع معين من المعلنين، وما عدا استثناءات أخرى محدودة فالبقية بلا إعلانات ولا محتوى.
- العامل الثاني والرئيسي في ضعف المجلات العربية هو الإمكانات البشرية، فالصحفيون والمحررون المميزون في العالم العربي نادرون جدا، وفي الغالب يتركون المجلات إلى قطاعات أكثر ثراء، وسبب ندرتهم أنه لا يوجد في العالم العربي كلية أو معهد أو مؤسسة تدريبية للإعلاميين تخرج الصحفيين الجيدين، وأنا شخصيا أتحدى أن تجد بين خريجي أي جهة تعليمية للصحافة في العالم العربي أكثر من نسبة 10% من الخريجين الذين يصلحون للتوظيف مباشرة في المؤسسات الإعلامية، بينما تجد أن أكثر من نصف طلبة أي قسم صحافة جامعي من جامعات الدرجة الثانية في أمريكا قد حصلوا على عقود توظيف مستقبلية من مؤسسات صحفية قبل تخرجهم لأن هذه المؤسسات تدرك يقينا أن خريجي هذه الجامعات سيكونون صالحين للعمل مباشرة فيها.
الإعلاميون العرب الناجحون هم جنود عظماء علموا أنفسهم بأنفسهم، بذلوا الجهد فاستغلوا موهبتهم وصنعوا حرفتهم بعيدا عن أي جهد تعليمي ذا قيمة.
يأتي كثير من المستثمرين أو أصحاب الأحلام الإعلامية أو المؤسسات الناشرة ويفكرون في مجلة ذات فكرة رائعة وتغطي فراغا مهما في السوق وعندما يبدأ البحث عن الإعلاميين يصابون بالخيبة الشديدة لأنهم لا يجدون رئيس التحرير المميز ولا الصحفيين القادرين على التحرير، وخاصة التحرير المتخصص إلا إذا دفعوا رواتب عالية جدا تجعل من المستحيل عليهم إنجاح المجلة تجاريا، وينتهي الأمر بمجلة أخرى من المجلات ذات الغلاف المكرر والعناوين السخيفة والموضوعات الإنشائية السقيمة.
- هناك سبب ثالث للمشكلة وهو ثراء الحياة الغربية مقارنة بالحياة في العالم العربي، فعندما تمسك بيدك مجلة أمريكية معنية بالشؤون الصحية مثلا تجد المجلة مليئة بالموضوعات الهامة لأن مصادر المعلومات كثيفة جدا من مراكز أبحاث ومتخصصين وخبراء ومؤسسات أكاديمية، وتجد تنوعا كبيرا في القضايا بسبب ذلك، وثراء في اللغة المطروحة لأن هناك تطوير مستمر في المصطلحات، وجمالا مميزا في الصور بسبب كثرة وكالات الصور المتخصصة، كما تجد روحا خفيفة في الكتابة تؤكد أن الكاتب يعيش ويتنفس روح المجلة ورغبات قراءها وليس مشغولا بعلاقاته الاجتماعية وأعمال “ما بعد الدوام” وبهمومه السياسية التي تشغل الموظف العربي عادة.
في أمريكا وأوروبا وفي آسيا، هناك من يطرق الباب عليك يعرض عليك اشتراكات في المجلات، ولو لم تكن المجلات جذابة ولها جمهورها العريض لما أمكن لشركة تسويق توظيف عدد كبير من المندوبين لهذه المهمة، أما في العالم العربي فالاشتراكات في المجلات محدودة جدا مقارنة بأي معدل عالمي، وعدد المجلات _ لكل مليون نسمة _ محدود جدا مقارنة بالمعايير العالمية، ومع ذلك فمن بين الـ600 مجلة عربية موجودة في المكتبات لا يقرأ منها أكثر من 10 أو 15 مجلة تعتمد كثير منها على ترجمة ما في المجلات الغربية لتتغلب على مشكلة شح المنتج العربي.
بقي أن أشير إلى مشكلة أخيرة وهي أن المواطن العربي لم يحب القراءة يوما، وكان يحتاج لجهد جبار لنقله لعالم القراءة، وقبل أن يتمكن الجيل السابق من فعل ذلك مع زيادة مستويات التعليم والوعي، لعب الزمن لعبته وجاءت المحطات الفضائية والإنترنت والموبايل، وهجم المواطن العربي عليها ليصبح من الصعب جدا نقله إلى عالم القراءة بعد أن انبهر عقله بأضواء شاشات التلفزيون والكمبيوتر وأصوات التكنولوجيا والتجارة في أسواق الأسهم والعملات والذهب والخردة وغيرها.
أمة الحرف العربي وأمة إقرأ وأمة الناسخين والعلماء والمترجمين والمخترعين هي اليوم أمة مسكينة مثيرة للشفقة بكل المقاييس.
أحمد الله أن هذا المقال منشور في جريدة وليس مجلة!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية