تقول إحصائية صادرة عن أحد أهم مراكز الأبحاث الإعلامية الأمريكية بأن 57% من المراهقين الأمريكيين يساهمون باستمرار في صنع المحتوى على الإنترنت، سواء من خلال المشاركة في المنتديات والمواقع أو من خلال المدونات أو وضع صورهم أو غيرها.
هذا يعني من ناحية أخرى، أن أكثر من نصف أفراد الجيل الجديد في أمريكا لا يكتفون بمجرد الاستهلاك السلبي للإعلام بل يساهمون بشكل فعال بالمشاركة في صنع المحتوى الإعلامي الذي يستهلكه عموم الناس.
لو أجريت إحصائية مماثلة لدينا في العالم العربي ففي الغالب سنرى نموا سريعا مماثلا في “المشاركة” على الإنترنت من خلال المنتديات والمدونات والتعليق على الأخبار، وهذا يعني أن الفرد تحول من مجرد مستهلك للمعلومات إلى صانع لها، ومن مستفيد سلبي من الإعلام إلى مشارك إيجابي.
ظهور أشكال “الإعلام الجديد” عبر الجيل الثالث أو شبكات الإنترنت السريع واسع النطاق broadband، أو تقنيات الفيديو عند الطلب، ستساهم كلها في تحويل الإعلام الكلاسيكي نفسه الذي عرفناه إلى إعلام تفاعلي يعطي الفرد الفرصة ليقول ما يريد ويشارك في تشكيل الوسيلة الإعلامية.
إنه من المتوقع أنه خلال خمس سنوات من الآن، وحسب استعراض المشروعات التقنية القائمة حاليا في عدد من الدول العربية بما فيها السعودية، أن يصبح لدينا سرعة عالية للإنترنت تسمح بالتوسع في مشاريع الإنترنت وعرض القنوات التلفزيونية وتطوير خدماتها التفاعلية مع ربط الإنترنت بجهاز التلفزيون نفسه، كما يتوقع أن يصبح الجيل الثالث من الجوال في متناول كل شخص بكل ميزاته التفاعلية الهائلة، وهذه الثورة الرقمية ستغير من عاداتنا، كما ستغير من الإعلام كما نعرفه إلى الأبد.
قد تقول بأنك لن تتخلى عن الإعلام كما عرفته لتدمن على قراءة المنتديات والمدونات ومواقع الفيديوهات، وبالتالي فإن الثورة لن تصل إليك، ولكن ليس هذا هو مغزى التغيير حقيقة، فمغزى التغيير هو أنك أنت ستتحول من شخص يتفرج ويقرأ فقط إلى شخص يكتب ويصور الفيديوهات ويستمتع ببناء روابط وعلاقات واسعة مع جمهور الإنترنت الذي جاء للغرض نفسه.
المشكلة في هذا الإعلام الجديد أنه خالي المصداقية لأن أي شخص يكتب ما يريد، يعمل في بيئة ديمقراطية جدا لا تسمح بوجود سلطة تمنع المشاركات الخادعة أو المنحازة، وستكون سوقا مفتوحة للأفكار يسوق كل إنسان لفكرته وينتصر من يحسن التسويق بشكل أفضل، على المدى القصير على الأقل.
صحيح أن الكثير من الإعلاميين في عالمنا العربي لا يتحلى بمبادئ الموضوعية والمصداقية أصلا، ولكن هذا لا يلغي المفهوم الأساسي، تماما كما أن وجود عدد كبير من الأطباء الأغبياء والذين يرتكبون أخطاء قاتلة لا يعني إلغاء مهنة الطب وفتح العمل في المستشفيات لكل من يرغب.
سيبقى الناس بحاجة لمعرفة المعلومة الصحيحة من الشائعة أو المعلومة المنحازة أو المضللة، وسيبقى الناس بحاجة للحكم الذي يجمع آراء الخصوم ويعرضها بلا تدخل، والإعلام الجديد القائم على مشاركة الجميع سيقلل من إمكانية وجود هذا الحكم.
هذا تحدي كبير سيواجه إعلام المستقبل، وسيواجه الناس أيضا، وسيفرض وجود فصل بين الإعلام الكلاسيكي القائم على القيم المهنية المعروفة وبين إعلام المشاركة، رغم أن هذا الفصل قد يعني أحيانا انتحار الوسيلة الإعلامية التي لن يقبل الناس بوجودها في المستقبل حتى تعطيهم فرصة للمشاركة.
في المواقع الإخبارية العربية التي تفتح بابا واسعا للتعليقات على الأخبار تجد عددا من الظواهر التي تدلل على وجود المشكلة، فمثلا تجد بعض القراء يتحدث عن الخبر ومعلوماته وقد خلط بين معلومة قرأها في الخبر الذي كتب بأسلوب مهني وبين معلومة قرأها ضمن التعليقات، وصار لا يتذكر الفرق، وصار الكل جزءا من فهمه للموضوع.
تجد أيضا أن التعليقات ترفض أو تناقض أو تنتقد صحة المعلومة في الخبر فيستقر في ذهن القارئ أن الخبر غير صحيح، رغم أن حجج رفض الخبر جاءت من قارئ عادي يدعي أنه يعرف الحقيقة ولم تأت من مصدر موثوق مسؤول عن كلامه.
الحلول صعبة لتحدي غير عادي. البعض يقترح وضع رقابة عليا على المحتوى القادم من القراء، ولكن من يضمن أن هذا الرقيب لن يراقب إلا دقة المعلومات فقط ولن يلغي الآراء التي لا تعجبه، ومن يضمن أيضا ألا يهرب القراء إلى الأبد إلى موقع آخر يشاركون فيه دون رقيب عتيد في زمن تتضاءل فيه مساحات الرقابة المقبولة لدى القراء.
إنها رياح التغيير تهب على الإعلام، ولا أحد بعد يعرف ما الحل!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية