سئل “عميد الأدب العربي” طه حسين، يوما عما إذا حوله الله إلى حيوان فماذا يريد ان يكون؟ فقال: أريد أن أكون فأرا، وكان تبريره لدهشة الصحفي السائل: حتى أستطيع أن أدخل للمكتبة وألتهم كتبها كتابا كتابا!
كان هذا الشعور ينتابني بقوة عندما صدمتني وفرة المعلومات في مكتبة الجامعة في ولاية أكلاهوما الأمريكية، حيث حضرت لدراساتي العليا في مجال الإعلام بعد معاناة سنين أمام “قحط” المعلومات متى ما احتجتها في العالم العربي لأنك تكتب بحثا جامعيا أو تعد موضوعا صحفيا.
عبر الزمن، صرت أربط بين مشاعر الإغراء والمتعة وإدمان “قوة المعلومات” Power of Informaiton، وبين”فأر طه حسين”، وربما كانت مشاعر مشابهة هي التي دفعت دوجلاس إنجلبارت، مخترع “الماوس” الذي يستخدم للتجول على شاشة الكمبيوتر عندما أعطاه شكل الفأر في عام 1968.
إنها لذة لا تنسى عندما تعد موضوعا صحفيا بعد بحث ساعات في قاعدة Lexis-Nexis، أو تعد ورقتك العلمية بعد بحث سريع في مكتبة الجامعة لتجمع 20 أو 30 كتابا أو مجلة متخصصة، وكانت ذروة المتعة في وصول الكتب التي أستعيرها من مكتبة هارفارد أو أكسفورد عبر خدمة “استعارة الكتب عبر المكتبات” Inter-Library Loan، والتي كان يحظى بها طلبة الجامعة مجانا وتسمح لهم باستعارة الكتب والرسائل الجامعية من آلاف المكتبات في أمريكا وأوروبا، لتصلهم بالبريد أينما كانوا.
تكررت التجربة مرة أخرى عندما بدأت طفرة تجارة الأسهم عبر الإنترنت، وهناك في نفس المدينة الصغيرة في أكلاهوما كنت أجلس أمام شاشة الكمبيوتر في حالة ذهول، أتجول بـ”قداسة” بين صفحات المعلومات التي تقدم كل ما يلزمك حول شركة معينة قبل أن تقرر أن تشتري أسهمها.
لما عدت للعالم العربي وانضممت لقطاع “الإعلام الجديد” المرتبط بشبكة الإنترنت، آلمني أن “الجفاف المعلوماتي” رغم الإنترنت والطفرات الاقتصادية ما زال قائما، وهي الحقيقة التي يبدو أن التعامل الجاد معها ما زال محدودا جدا.
حتى نستطيع تأسيس قواعد معلومات مميزة سواء عامة أو متخصصة نحتاج لثقافة “جارفة” تسيطر على الجميع ويسود فيها حلم الاستمتاع بوفرة المعلومات، ثقافة تعرف أن المعلومة هي خير ما يمكن أن يساعد على القرار الصحيح، وأن الأمة التي لا تملك قواعد منظمة للمعلومات بأنواعها هي مثل الكتاب الذي لا يحمل عناوين ولا فهارس.
ليس ذلك فحسب، تقول أحد التقارير الغربية _ صدر عام 1993 _ بأن نصف الوظائف في المجتمعات الصناعية قائم على المعلومات، وهذا يعني أن طريقنا إلى التقدم لا بد أن يمر بالمعلومات التي ما زالت في عالمنا العربي شحيحة، غير منظمة، غير موثقة، بلا معايير محتوى واضحة، وتتأثر في جمعها وتصنيفها بأهواء الأشخاص، وأخيرا لا ترعاها جهات حكومية أو تجارية بالجدية اللازمة.
وإذا كنا نفهم سبب الكسل البيروقراطي للحكومات في تبني قواعد المعلومات، فما لا أفهمه عندما تشعر بأزمة صانع القرار العربي في القطاعات الحكومية والتجارية في إيجاد المعلومة اللازمة لاتخاذ قرار صحيح دون أي تحرك ذي معنى لعلاج هذه الأزمة، وهو ما يجعلني أعتقد جازما أن “إيمان” صناع القرار بأهمية المعلومات ما زال محدودا.
لقد كانت هذه واحدة من أهم الأزمات التي واجهتنا ونحن نعمل في “قناة العربية” على إطلاق موقع alaswa.net، وهو موقع إنترنت عربي متخصص في المال والأعمال على شبكة الإنترنت: شح المعلومات، فندرة المعلومات المتخصصة في قطاعات المال والأعمال باللغة العربية جعلنا نبني رؤية واضحة للموقع مبنية على إيجاد هذه المعلومات بلغة سهلة تتناسب مع عموم الناس، وخاصة أن “المستثمر الشخصي” غير المحترف بدأ يتكاثر كظاهرة في السوق العربي مع طفرة أسواق المال وأسواق العقارات التي جذبت الكثير من الأفراد لاستخدام مدخراتهم الشخصية في التجارة.
لكن أزمة أخرى واجهتنا، وأعرف أنها تواجه عددا من المشاريع الإعلامية المتخصصة في مجال الاقتصاد، وهي أزمة نقف أمامها في عجز كامل: شح الموارد البشرية.
“مطلوب صحفي اقتصادي” هي عبارة يتداولها الزملاء يمنة ويسرى بحثا عن الشخص المناسب بدون أمل تقريبا في إيجاد الصحفي المميز الذي يعرف كيف يكتب ويفهم أصول المهنة، وفي نفس الوقت يجيد التعامل مع المعلومات الاقتصادية المتخصصة، ويستطيع أن يقدم تقارير خالية من الأخطاء وتساعد القارئ على الفهم الذكي للمعلومات.
هناك صحفيون جيدون لا يفهمون من الاقتصاد إلا إعادة صياغة بيانات العلاقات العامة الصادرة عن الشركات، وهناك محللون اقتصاديون جيدون _ رغم ندرتهم _ لا يستطيعون صياغة المعلومات بشكل مقروء، ويقف بينهما مدير المشروع الإعلامي عاجزا عن الحل.
نحتاج لقواعد المعلومات، ونحتاج للأكاديميات التي تعد الأشخاص الذين يحللون المعلومات، ونحتاج للتدريب المميز للصحفيين الاقتصاديين، نحتاج للكثير حتى نستطيع اللحاق بقطار المعلومات الذي تزداد سرعته عاما بعد عام، وتزداد الفجوة بيننا وبينه مع ازدياد السرعة.
نحتاج لـ”الإيمان” بأن هناك مشكلة هائلة تبحث عن حل!!