المسلسلات التاريخية لا تصلح لشعوب تكره التاريخ!

من قسم شؤون إعلامية
السبت 14 أكتوبر 2006|

تبدو المسلسلات التاريخية وكأنها من الكماليات المناسبة لشهر رمضان، فشاشات التلفزيون تجد فيها مادة مسلية جذابة للجمهور العام مليئة بالحركة “الأكشن” والإثارة والرومانسية أحيانا، وفي نفس الوقت تتناسب هذه المسلسلات مع روحانية الشهر وطبائع المشاهدين العرب.

لكن هذه المسلسلات تقع في عدة مآزق تجعل منها مادة أقرب ما تكون للمسلسلات البدوية الأردنية القديمة التي كنا نراها قبل عصر القنوات الفضائية، وأهم هذه المآزق ما يلي:

  • يكتب هذه المسلسلات عادة كتاب رديئون ليس لديهم الوقت لفتح كتب التاريخ أو ليس لديهم الميزانية الكافية أو التواضع اللازم للجوء للمؤرخين، إن وجدوا طبعا.

في مسلسل “خالد بن الوليد” أو مسلسل “الأمين والمأمون”، أخطاء تاريخية مضحكة وعبارات نشأ بعضها بعد عصر الإنترنت، وتخيل لأحداث لم تحصل، وأنا ذكرت هذين المثالين لأن المسلسلين من أبرز المسلسلات هذا الشهر، وإلا فإن القاعدة تنطبق على كل مسلسل تاريخي فضائي عربي بلا استثناء.

أنا طبعا لست ضد ملء الفراغات التاريخية _ أي التفاصيل التي لم يشرحها لنا التاريخ _ بالخيال، فهذا منهج أقره الكثير من الأدباء والمؤرخون العرب والغربيون، ولكن ملء الفراغات يجب ألا يتناقض مع الحقائق ويجب أن يأتي من قلب تشبع بروح المرحلة التاريخية التي يكتب عنها ولم يكتف فقط بقراءة أحد الكتب المدرسية التي تتناولها.

  • تقدم هذه المسلسلات عصورنا التاريخية القديمة أو شخصياتنا التاريخية الحديثة، كما في مسلسل العندليب أو نزار قباني أو المسلسلات التي تناولت الرؤساء المصريين السابقين، وكأنها شخصيات عظيمة، أخطائها محدودة، وترتفع فوق حدود البشرية.

في هذه النقطة أنا لا ألوم كتاب السيناريو والمخرجين على الإطلاق، بل على الغالب هم يفعلون ذلك مكرهين، وذلك لأن العرب يكرهون التاريخ ويحبون “التلميع” كما يحبون “المآثر والمناقب” ولا يحبون “الجرح والتعديل”.

الغريب أن هذا يتناقض مع كتب التاريخ التي كتبت في ذلك الزمان والتي تشرح لك كل شيء، الحق والباطل، وتقدم لك أشخاص الخلفاء ورجالات التاريخ على أنهم بشر يخطئون ويصيبون، يستمتعون بالسلطة أحيانا أكثر مما يجب ويسببون الكوارث ويسفكون الدماء في بعض الحالات، كما تقدم لك مراحل التاريخ كما هي.

في زمننا هذا نحب أن نتحدث عن الأوائل وكأنها قديسون حتى نثبت لأنفسنا أننا بالرغم من أننا متخلفون فنحن أحفاد العظماء الذين فاقوا كل الشعوب عظمة بلا استثناء.

عند الكتابة عن التاريخ الحديث أي العقود الأخيرة من الزمن، تصبح المشكلة أكبر لأن كتابة الحقيقة معناه دفع الثمن غاليا، فهناك ألف قوي سيدافع عن الشخصية التاريخية التي يمكن أن يقول أحد عنها الحقيقة.

وحتى لو لم يكن للشخص أقوياء يدافعون عنه، فإن الشعوب التي تكره التاريخ وتعشق صناعة الأبطال الوهميين سترفض مسلسلات الحقيقة.

من سيرضى من المصريين _ مثلا _ بمسلسل أو حتى برنامج وثائقي يقدم الحقيقة الكاملة عن شخصية “حليم” أو “عبدالناصر” أو “أم كلثوم”، الحقيقة بلا رتوش؟

  • التاريخ هدفه ليس فقط رواية القصة بل استلهام العبر والغوص في أعماق الحدث وتحدي روح الزمن، وهذه لا تصلح للجمهور العام الذي لا يحب القراءة ويكره المعلومات، ولذا فحتى لو وجد لدينا المؤرخ العميق وكاتب السيناريو المتواضع والمخرج الذي يقدر قيمة هذه الأبعاد في المسلسل التاريخي فإن الجمهور لا يتحمل هذا المستوى من العمق على كل حال.

في الأفلام الهوليودية، تجد أحيانا نفس المشكلة، ولكنك في النهاية تحصل على مجموعة من العبارات العميقة التي تجعلك تصفق وتتأمل وتتأوه حزنا أو تشوقا لتلك المرحلة التاريخية، تجعلك تغوص معهم في ذلك الزمن، كما تجد الأفلام محدودة التوزيع التي تقدم الحقيقة بشكل أفضل وأعمق أما مسلسلاتنا فهي لا تزيد عن عبارات سطحية وتوصيف غبي لأحداث التاريخ، هناك استثناءات ولكنها نادرة عموما.

أحب دائما أن أقترح الحلول، ولكن كره الناس للحقيقة والتاريخ ليس له حل.

أقترح شيئا واحدا أن ينتفض المؤرخون _ وهو تعبير تلميعي لأساتذة التاريخ في جامعاتنا العربية _ من سباتهم ويشاركوا في تقديم الخلفية التاريخية لهذه المسلسلات، سواء رضي المخرجون أم أبوا، وسواء لمعت الدولارات في السماء أم لم تلمع.

لو فعلوا ذلك فربما طالب الجمهور العربي العظيم بأن يكون هناك في آخر المسلسل ما يثبت أن مؤرخا راجعه أو أن قسم تاريخ في جامعة حكومية ما _ لا يوجد قسم تاريخ واحد في الجامعات العربية الخاصة _ حاول أن يضع لمساته عليه.

أقترح أيضا أن نعشق التاريخ، لأنه من علامات الحضارة.. !

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية