انقضت الأسبوع الماضي جولة أخرى من برنامج “ستار أكاديمي” والذي شغل الناس لأسابيع طويلة، واستغرق الكثير من وقتهم في متابعة البرنامج، وأدخل في حياتهم نجوما جددا، وتحققت نبوءة بعض مفكري الإعلام العالميين بأنه سيأتي يوم يصنع فيه التلفزيون الحدث بدلا من أن ينقله.
لكن ستار أكاديمي، كغيره من البرامج التلفزيونية الكثيرة التي ظهرت في الفترة الأخيرة في مختلف القنوات العربية، يلعب على حبل النزعات والميول النفسية العربية، ولا أعنى هنا فقط ما يذكره البعض من ترويج نموذج حياة مخالف للعادات والتقاليد العربية المحافظة، وإنما اللعب بوضوح على مسألة النزعات القومية لدى مختلف الجماهير العربية.
قنوات التلفزيون العربية اكتشفت أن العرب تشتد وطأتهم وتشتعل كرامتهم عندما يدخل أحد منهم المنافسة، ويبادرون وكلهم غضب وحماس للاتصال وإرسال الرسائل _ مهما كانت التكلفة _ وعلى هذا الأساس جاءت الفكرة باختيار أشخاص يمثلون جنسيات عربية متنوعة، حتى يشتعل حمى الوطيس ويفوز من يفوز وتقبض القناة الثمن.
لكن القائمين على هذه القنوات وغيرهم من صناع القرار يعرفون حق المعرفة أن هذه المشاعر السلبية ضد الشعوب العربية الأخرى أمر له سلبياته الحتمية كلما توارد “التعاون العربي” في أي شكل من أشكاله، بل إنني أميل كثيرا للقول بأن فشلنا في إحداث “نجاح عربي مشترك” يعتمد بسبب رئيسي على ما لدى كل شعب دولة عربية من صور ذهنية سلبية عن الشعوب العربية الأخرى، ومثل هذه الصور تترك أثرها المدمر عند شعوب تحكمها العاطفة أكثر مما يحكمها العقل.
هذا يطرح سؤال هام: إلى أي حد يحق للإعلام _ بمختلف صيغه وأشكاله _ أن يكون “بشريا” يخطئ ويصيب، تأخذه الأهواء ويميل حيث تفرح القلوب وتتجاوب العواطف، وإلى أي حد ينبغي أن يكون فاضلا لا يخطئ، يحمل الرسالة ويبحث عن الخير ويحارب الشر مهما كانت التكلفة؟
الجواب على هذا السؤال له نظريات كثيرة وأشهرها نظرية “الإعلام مرآة المجتمع” على أساس أن الإعلام يمثل المجتمع، وإذا مال المجتمع يمنة أو يسرة مال الإعلام معه بالضرورة.
وهذه النظرية مرتبطة بنظرية أخرى هي نظرية “الأثر القوي للإعلام” والتي ترى أن الإعلام يرتبط تأثيره بتأثير مؤسسات المجتمع الأخرى مثل الأسرة والمدرسة ومجموعات الأصدقاء والمؤسسة الدينية والمؤسسة الرسمية، وهو لا يستطيع أن يذهب ضد المؤسسات الأخرى لأن تأثيره في هذه الحال يكون ضعيفا، كما أنه قد يخسر من الناحية الربحية.
هذه النظرية، وهي السائدة اليوم في عالم الإعلام الغربي، جاءت ردا على نظرية “الرصاصة” والتي كانت تقول بأن تأثير الإعلام كالرصاصة ينطلق ليصيب من أمامه مهما كانت مقاومة المجتمع له.
إذن الإعلام يحتاج للمجتمع ليؤثر، وإذا كان “ستار أكاديمي” قد تمكن من الوصول للبيوت وأن يشغل الناس ويشغل حتى المؤسسة الرسمية في بعض البلدان، فهذا معناه أن الإعلام متوافق مع حال قطاعات المجتمع، والقنوات العربية الناجحة شعبيا والرابحة ماديا اختلفت عن القنوات الأخرى بأنها فهمت الواقع الحقيقي للمجتمع العربي وخاطبته ولعبت على حبال عاطفته فكسبت المعركة.
الإعلام مرآة المجتمع، وإذا كان المجتمع مستعدا للخطيئة فإن الإعلام أول من يركض خلفها.
هذه التجربة التي تحصل عندنا، حصلت في بلاد أخرى كثيرة من أقصى الشرق في اليابان إلى أقصى الغرب في أمريكا، حيث لاحظ هؤلاء أن الإعلام بسبب عوامل الربح المادي يهبط إلى الحضيض عندما يهبط المجتمع، ويصبح عاملا أساسيا في تحقيق المزيد من التردي والانهيار، ويتخلى تماما عن رسالته في النهضة بالمجتمع، وهي رسالة في منتهى الأهمية.
لعلاج هذه المشكلة جاء الحل بتأسيس قنوات إعلامية لا تعتمد على الربح، وبالتالي لا تعتمد على مدى تجاوب المجتمع، وتم بالفعل تأسيس فنوات BBC البريطانية وقناة PBS الأمريكية وإذاعة NBR الأمريكية، وتلفزيون DW الألماني، وغيره العشرات في مختلف دول أوروبا وآسيا وأمريكا، وهذه القنوات تعتمد على الدعم الحكومي وتبرعات الأفراد والشركات والمؤسسات الخيرية.
ما حصل أمر مميز وهو التنافس بين هذه القنوات وبين القنوات التجارية، وإذا كانت القنوات التجارية ربحت المعركة في كثير من الأحوال بسبب ميزانياتها الضخمة، فإن الملاحظ أن هذه القنوات بقيت مرجعا هاما للمجتمع يحدد بوصلة الخير والشر، وتفرق بين الفضيلة والخطيئة، وبين ما يصح وما لا يصح، كما بقيت هذه القنوات ملجأ لكل فرد أو أسرة يبحث عن “الإعلام المحترم” الذي يساهم في الرقي لا في الانحطاط.
لكن ما السبب في نجاح هذه القنوات من حيث الجودة والكفاءة وفشل الإعلام الحكومي في العالم العربي رغم ما توفر له من إمكانيات ورغم اعتماد قنواتنا وقنواتهم على الدعم الحكومي؟
الجواب هو نفسه الجواب الذي يمكن طرحه على المقارنة بين نجاح المؤسسة الحكومية الباهر في الدول الغربية والفشل الإداري الضخم للمؤسسة الحكومية العربية، وهي إجابات لا تغيب عن بال قارئ.
ربما هذا يجعلنا نؤمن فعلا بنظرية “الإعلام مرآة المجتمع”، وحينها سنبقى بلا حل حتى يفرجها الله.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية