من المعروف في الوسط الإعلامي في المملكة أن الكفاءات المميزة في مجال الإنتاج السينمائي وإنتاج الفيلم الوثائقي والفيلم التسجيلي نادرة جدا، والكفاءات هنا لا أقصد بها فقط المخرجين بل أيضا المنفذين والمصورين بأنواعهم، وبالمتميزين لا أعنى فقط القدرة على أداء العمل، بل أدائه بشكل فني راق يجعل العمل قادرا على المنافسة في سوق الإعلام العربي والعالمي.
هذه الندرة انعكست بشكل واضح على سوق الأفلام الوثائقية والتسجيلية الصادرة عن السعودية، فصارت هذه الأفلام نادرة جدا مقارنة بما لمناطق المملكة من تاريخ ثري وخصوصية ثقافية وجاذبية عربية وعالمية.
ولن أطيل في الحديث عن هذا الأثر على الصورة الذهنية للمملكة في الخارج، فهذا أمر يدركه القارئ ببساطة ويستطيع تخيله مع إدراكنا جميعا لقوة الصورة التلفزيونية وتأثيرها في الشعوب على اختلافها، كما لن أتحدث عن الأثر الداخلي لفقدان مثل هذه الأفلام، من حيث انعدام توثيق الإنجاز السعودي والتطور الثقافي بشكل بعيد عن السرد الممل والمعد بقدرات فنية فقيرة، وكلنا نعرف المثل الصيني: “صورة تغني عن 1000 كلمة”، ولك أن تشاهد صورة إخبارية واحدة في أي محطة تلفزيونية، وتتخيل أثرها على ارتباطنا بالحدث المصور، كما لك أن تتذكر الدول العربية التي تعاني من فقر الصورة، وترى كيف أن حضورها في ذاكرتك ضعيف، وصورتها باهتة، وفهمك لخصوصيتها محدود.
هناك أسباب عديدة ومتشابكة لضعف الفيلم السينمائي السعودي، منها محدودية الجهات التي تؤمن بتمويل هذه الأفلام ومحدودية الشركات التي تحسن تسويقه وتصريفه، ولكن السبب الرئيسي يعود كما ذكرت في بداية المقال لضعف الكفاءات وندرتها، الأمر الذي يجعل إنتاج الفيلم مكلفا جدا، لو أنتج في الخارج، وضعيفا لو أنتج في الداخل، والحل البسيط لعلاج ضعف الكفاءات هذا هو.. “التعليم والتدريب”.
ليس في المملكة العربية السعودية حتى الآن مركز تدريب واحد يتعامل مع إنتاج الفيلم، ورغم أن أقسام الإعلام في الجامعات السعودية تعمل في حدود إمكانياتها على تدريب الطلاب في هذا المجال، إلا أن مخرجات هذه الأقسام لا تقارن بحاجة السوق من حيث الكم والكيف معا.
أقول هذا تعليقا على حوار “إضاءات” مع رئيس جمعية الصحفيين السعوديين الأستاذ تركي السديري، والذي تحدث فيه عن معهد الأمير أحمد بن سلمان، رحمه الله، للتدريب الصحفي، وتعليقا على استعدادات الجمعية السعودية للإعلام والاتصال لعقد منتداها السنوي الثالث حول “التعليم والتدريب الإعلامي في الوطن العربي” في شهر شوال المقبل.
أعتقد أن كلا الجمعيتان من خلال المعهد ومن خلال المنتدى سيمكنهم القيام بالدور الفعال الأمثل في معالجة هذه المشكلة لإعداد نوع جديد من الكوادر يهتم بالصجافة التلفزيونية وإنتاج الفيلم الوثائقي والكتابة للفيلم وللتلفزيون والإنتاج المتخصص.
إنجاح مثل هذه المهمة سيحتاج لتحويله لمشروع يحمل اسما لامعا يؤكد على رسالته وصورته الذهنية يدار بشكل ذكي ويقف وراءه مجموعة من رجال الأعمال الذين يؤمنون بأن الصورة تمثل مشروعا رابحا في النهاية، ومشروعا فنيا عظيما لعكس الأضواء على المملكة، ويؤمنون أيضا بأن الشباب لديهم الطاقات ويحتاجون لمن يستثمرها معهم ويعلمهم ويؤمن بهم، وأن الموضوع لا يبدأ باستحضار “الخبراء” بل بتكوين الجيل الذي يصبح قوة دافعة بنفسه، وإن كان هذا الفريق يديره أشخاص مميزين يحضرون تجربتهم معهم ليقدموها لهذا الجيل الجديد.
ولعله من المفيد استحضار التجربة الإماراتية التي انطلقت هذا العام بعد استضافة دبي لمهرجان الفيلم السينمائي، حيث قامت عدة مشاريع بتمويل من بنوك إماراتية ورجال أعمال أمارتيين وبدعم من الأسر الحاكمة في أبوظبي ودبي، ومنها مشروع لإحداث شراكة مع استديوهات ميراج الأمريكية وشركة WB السينمائية الشهيرة، حيث انتقلت مديرة الاستديوهات، ميشيل نيكلسون، إلى دبي، وتعمل حاليا على تأسيس مركز تدريب يتسع لـ200 شخص بالتعاون مع الجامعات الإماراتية بحيث تعتمد استديوهات هوليود على هذه الاستديوهات في بعض الأمور المتخصصة كما تعتمد على الاستديوهات الآسيوية، ومشروع آخر يقوده المخرج الأمريكي، كيم بيجلو، ضمن برنامج الجامعة الأمريكية في الشارقة، والذي أنتج حتى الآن حوالي 30 فيلما وثائقيا ودراميا من خلال جهود الطلاب أنفسهم، وكل هذا جاء مع إحساس الإماراتيين بأن استضافتهم لمهرجان الفيلم السنوي يعيبه ضعف التواجد الأماراتي، وكانت هذه الفكرة بداية الانطلاقة التي نتج عنها هذه المشاريع.
لقد كانت الحجة الواهية التي اعتمد عليها لسنوات طويلة في إضعاف الإنتاج السينمائي والوثائقي السعودي أن خصوصية المملكة الثقافية تمنع الاندفاع في مثل هذا الإنتاج.
وأنا أقول أن هذه الخصوصية يفترض أن تكون المحفز الرئيسي لمثل هذه الانطلاقة، للتعبير عن التاريخ والثقافة والفكر والتطور والرؤى بصور تغني عن ملايين الكلمات!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية