تستضيف مدينة كان الفرنسية كل عام واحدا من أجمل المؤتمرات والمعارض العالمية الإعلامية، حيث يتضمن سوقا متخصصا في بيع البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية وقوالب البرامج التلفزيونية Formats، والمحتوى الكرتوني Animation، والبرامج المتخصصة، وكل أنواع المحتوى في الدنيا التي يمكن أن تظهر على أي من الشاشات الثلاثة “التلفزيون والإنترنت والموبايل”.
كما يرافق هذا السوق الذي يعقد مرتين كل عام تحت اسم “MIPTV” في أبريل و”MIPCOM” في أكتوبر، مؤتمر ضخم يتحدث فيه أبرز الشخصيات الإعلامية في العالم والتي تتربع على رأس المجموعات الإعلامية العملاقة، مما حول المؤتمر والمعرض المرافق له للحدث الذي يقود تطور الصناعة الإعلامية وصناعة المحتوى عبر العالم.
نجاح هذه المناسبة يأتي من قوة الفكرة، فمنتجوا البرامج والمحتوى في كل أنحاء العالم يأتون لمكان واحد يلتقون فيه بكل القنوات التلفزيونية وغيرها من وسائل الإعلام الراغبة في شراء هذا المحتوى، مما جعل حضور المناسبة أمرا حتميا على الجميع، فلا ترغب أي وسيلة إعلامية ألا تكون جزءا من المنافسة على البرامج والمحتوى المميز، فيما يرغب المنتجون في تسويق ما لديهم في هذا السوق، والعرب ليسوا استثناء، فمن النادر ألا تجد تمثيلا قويا لأي قناة تلفزيونية عربية “بما فيها الحكومية”.
ومن النادر أن يرضى منتج أو “مسوق إنتاج” لنفسه ألا يحضر هذه المناسبة العالمية الضخمة، والتي بدأت في الانعقاد السنوي منذ عام 1964، وحضره في العام الماضي على سبيل المثال 1700 شركة تسوق منتجاتها و4200 جهة ترغب في شراء تلك المنتجات، من 100 دولة، وكان مجموع حضور المؤتمر 12,500 شخص، منهم حوالي 7% من الشرق الأوسط وأفريقيا.
في السنوات الخمس الأولى شهد هذا السوق العالمي تحولا واضحا في هيكلته عموما وفي محاضراته وطبيعة الحاضرين مع التركيز الهائل على الإعلام الجديد، ومثل هذا مؤشرا على التحول العالمي في هذا المجال، وبالرغم من أن سوق “ميب” (MIP) في كان الفرنسية يعتبر التجمع الكلاسيكي لرجالات التلفزيون حول العالم، إلا أن السعي لمواكبة التغيرات والحرص على أن يكون هذا السوق “ثرمومتر” الصناعة التلفزيونية، اضطر القائمون عليه إلى فتح الأبواب للإعلام الجديد الرقمي والتركيز عليه بشكل خاص في السنوات الأخيرة.
واحد من أهم الاتجاهات التي يتم التركيز عليها ما يسمى اليوم بـ”Connected TV“، أي ظهور المحتوى “برامج أو أي نوع من الفيديو، ألعاب، موسيقى، الخ” على شاشات متعددة في نفس الوقت “التلفزيون والموبايل والإنترنت” وحسب الطلب “أي وقت وأي مكان”، بحيث يكون للمستخدم حرية الحركة بين الشاشات كيفما رغب، بالإضافة لكل الخصائص التفاعلية التي تسمح للمشاهد بالتفاعل مع المحتوى ومشاركته مع “الأصدقاء”.
هذه الأفكار وكل الأفكار الأخرى لاستهلاك المحتوى التلفزيوني حسب الطلب ما زالت في مرحلة ما قبل الولادة في العالم العربي، مجرد أفكار يتسلى البعض بطرحها، مقارنة بدول العالم الأخرى التي أدركت هذا التغير العميق في عالم الإعلام وسيطرت عليه.
لتدرك الفرق فإن شركة مثل “Netflix” الأمريكية والتي تقدم البرامج للتلفزيون حسب الطلب تبلغ قيمتها حاليا أكثر من عشرة مليارات دولار ولها مبيعات سنوية بمئات الملايين كل عام، بينما الفكرة لم ترى النور بعد عربيا.
هناك ثلاث تحديات أساسية تمنع من المشاركة العربية في هذا التطور العالمي:
- ضعف الوعي عند هيئات تنظيم الاتصالات في العالم العربي والتي تشرف على شركات الاتصالات، يضاف إليها الطبيعة الاحتكارية والجامدة لشركات الاتصالات والتي تسعى دائما للربح السريع.
ونظرا لأن معظم هذه المشاريع تحتاج تشريعا ينظمها وتحتاج مشاركة من شركات الاتصالات فإن تلك المشاريع شبه معدومة خليجيا وعربيا.
- هناك ضعف عام في البرامج التلفزيونية “الدراما والوثائقية” العربية، ومازالت الجماهير ترتبط بالقناة التلفزيونية أكثر من ارتباطها بالبرنامج، مما يعني أنه عندما تكون البرامج متاحة حسب الطلب، فإنها لن تلق الجمهور الذي يبحث عنها لأجلها ويدفع لمشاهدتها، ورغم التحسن في مستوى البرامج، فهذا الوضع الاستثنائي ما زال قائما.
- لا توجد في العالم العربي هيئات أو شركات كبرى أو صناديق استثمارية ترعى التجارب في هذا المجال، لأن الاعتماد على منطق الربح والخسارة وليس منطق البحث والتطوير في هذه المشاريع من شأنه أن يقضي عليها في مهدها بسبب المخاطرة العالية، ولكنه في النهاية يعطي الفرصة للشركات الغربية أن تأتي لتسيطر على السوق، تماما كما حصل مع مواقع الإنترنت ومع قطاعات أخرى كثيرة تسيطر عليها الشركات الأجنبية بسبب تردد القطاعات المحلية على المضي قدما، وعدم وجود من يمول.
ولتدرك الفرق أكاد أجزم أنه ما لا يقل عن 80% من المشاريع الجديدة الغربية تلقى تمويلا داعما من جهة لا تهدف للربح السريع وتقبل المخاطرة أو الدعم الخيري، وهذا وضع لا وجود له على الإطلاق خليجيا أو عربيا.
العالم يتحول، يتطور، ينطلق عبر الآفاق، ونحن ننتظر أن نقطف الثمار.. وإن كنا سندفع ثمنها غاليا!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية