من كان يظن أن الإنترنت سيصنع مجتمعا أكثر عدالة أو أكثر ذكاء وتنويرا أو حتى أكثر تعليما فهو “بوضوح جاهل بطبيعة البشر”.. هذا كان مقطع جميل وملفت للإنتباه من حديث مطول ألقاه رئيس Google، إريك شميدت، في مؤتمر الشركة السنوي.
المحللون السياسيون يقولون بأن العالم يعيش اليوم حالة من “الاستقطاب السياسي” Polarization، وهي حالة بدأت في الستينات الميلادية، ولكنها تصاعدت بشكل سريع جدا في السنوات العشر الأخيرة، والمقصود بها بشكل مبسط هو ذلك الاتجاه نحو التطرف حول أي قضية سياسية ضمن الأحزاب أو على المستوى العالمي أو على مستوى الرأي العام، بمعنى أن العالم يتجه في أفكاره وسلوكياته السياسية نحو “الأسود” و”الأبيض” بدلا من الدرجات الرمادية.
كثير من المحللين يرون في “الاستقطاب” دليلا على انتشار التعصب، ولكنني شخصيا أراه دليلا على السطحية المتزايدة لدى الجماهير، والتي تدفع السياسيين لتبني تلك الآراء السطحية حتى يسايروا الجماهير، والسطحية تأتي بشكل أو بآخر من قلة المعلومات وقلة التركيز وانتشار الصور الذهنية السلبية.
إريك شميدت، يرى بأن الإنترنت بأدواته وانفجار ثورة المعلومات الذي أدى إليه والحركة السريعة جدا للمعلومات في أرجائه هو المسؤول عن حالة “الاستقطاب” وذلك لأنه ببساطة يمنح الرأي العام أدوات تحول القضايا من حجمها الحقيقي إلى أحجام أكبر بكثير، مما يشجع على أخذ وجهات نظر متطرفة نحو القضايا.
الإنترنت أيضا هو ما يحول أشخاصا لا شأن لهم، أو رؤى من يؤيدها محدودون جدا، أو قضايا لا قيمة لها إلى قضايا مثيرة للجدل ومؤثرة سياسيا.
شميدت، طرح مثالا على ذلك بقضية القسيس الذي هدد بحرق نسخ من المصحف الشريف خلال ذكرى 11 سبتمبر، والذي حصل على الكثير من الانتباه رغم أنه رجل لا قيمة له والذي اعتبره دليلا على “غياب التوازن” في عالمنا اليوم.
الإنترنت باختصار يسمح للجماهير بتشكيل نفسها في مجموعات بسرعة هائلة جدا، ويسمح للحملات السياسية أن تنطلق بشكل شامل وسريع حول العالم على يد عدد قليل من الناس، كما يعطي أدوات سهلة للمتطرف ليصادر الرأي المعتدل، وهو الأمر الذي سميته في دراسة علمية نشرتها قبل عدة سنوات بظاهرة “الصراخ الإلكتروني”.
الصراخ الإلكتروني – كما عرفته سابقا _ هو عندما يحاول الكاتب على الإنترنت أن يستخدم لغة وأسلوبا في الكتابة بحيث يعلو ما يقوله على ما يكتبه الآخرون، أو بمعنى أصح إحداث ضجة ضخمة للفت الأنظار، مع التأكيد على محاولة إلغاء الأصوات الأخرى من خلال زيادة حدة الصوت وطبقته.
أدخل إلى المنتديات، تجد دائما أولئك الذين يصرخون، ربما لأنهم في كثير من الأحيان يشكون في قدرتهم على الإقناع، فيضطرون لاستخدام تكتيكات وأساليب عاطفية ونفسية تجعل القارئ محصورا في دائرتهم، منشغلا عن الاستماع للأصوات الخافتة الأخرى.
وقد ينشأ الصراخ الإلكتروني بطريقة أخرى وهي من خلال زيادة عدد المشاركات وتنظيمها ودعم بعضها البعض حتى يظن القارئ أن هذا رأي الأغلبية وأن هذا هو المنطق والصحيح بحكم أن عددا كبيرا من الناس ذوي الهويات المستعارة يقولون به بلا شك أو تردد، مما يشغله عن الأصوات الخافتة الأخرى التي تأتي وهي تقول “ربما” و”علينا أن نفكر” و”بعض الناس” دون أن تجد من يوافقها في الرأي أو حتى يستمع لها.
ولأن البعض يمارس الصراخ الإلكتروني من خلال العبارات القوية والتدفق الكثيف والجزم الحاد في الآراء، يضطر الآخرون لأن يفعلوا الشيء نفسه ليلفتوا الأنظار لهم، ويتحول المنتدى تدريجيا إلى أصوات مرتفعة تحارب بعضها البعض، بينما أكثر الأصوات خفوتا هو صوت العقل الذي وضع جانبا لأجل كسب معركة الصراخ.
هذا قد يشرح سبب غياب الموضوعية والعقل عن كثير مما يكتب على الإنترنت، لأن الكثيرين يعيشون في دوامة من ردود الأفعال العاطفية ضد بعضهم البعض وينسون تماما أصول الحوار وأهمية تقدير الرأي الآخر وشجاعة الاعتراف بالخطأ عندما يتطلب الأمر ذلك.
إريك شميدت، أشار أيضا بشكل جميل إلى ظاهرة أخرى لدى الرأي العام تكونت بسبب الإنترنت وهي الإحساس بالغرور لدى الجماهير التي ترى أن قضية معينة قد شغلت الناس وتحدثوا عنها بشكل واسع وصارت محل الاهتمام دون أن يكون لهذا الضجيج قيمة حقيقية على أرض الواقع، ولا يؤدي لتغيير سياسي، ولكن هذا الضجيح يتحول في النهاية إلى أداة للإقناع التي تساهم في المزيد من التطرف حول العالم، لأن الناس تظن أن هذا الضجيج معناه أن هذا الرأي صحيح في النهاية.
طبعا هناك فئة من الجمهور تستفيد من الإنترنت بشكل إيجابي، ويساهم الإنترنت في زيادة معلوماتها، ولكنهم فئة محدودة في النهاية.
لا يمكننا إلغاء الإنترنت ولكننا نحتاج لفهمه حتى يمكننا التعامل معه بشكل أكثر وعيا..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية