ثار جدل متنوع في الفترة الأخيرة حول ما تبثه وسائل الإعلام التلفزيونية العربية ومدى تأثيره السلبي على الجمهور، وكالعادة ارتبطت معظم الحلول المقترحة بالمحاور الرئيسية في التفكير العربي حول كيفية علاج المشاكل الاجتماعية: الاستئصال الكامل، تدخل الحكومة، مسؤولية الغرب، نظرية المؤامرة، أو رفض الحلول بأنواعها.
لكن هذا النقاش طبيعي مع تغير ما تبثه وسائل الإعلام وخاصة مع انتشار المحتوى الغربي، وهو محتوى ينتمي لثقافة أخرى غير الثقافة العربية، ويحمل مضامين لا تقبلها الثقافة العربية، مما يثير انزعاج فئات واسعة من الناس.
إن ما يلفت الانتباه بحق، أن هذا المضمون الذي يعبر كثير من الناس عن رفضهم لتفاصيله يبقى الأكثر شعبية بين الناس حسب دراسات السوق التي تقوم بها شركات الأبحاث شهرا بعد شهر، فالأفلام والمسلسلات الأمريكية تبقى على قمة قائمة النجاح، الأمر الذي يدفع المزيد والمزيد من وسائل الإعلام التلفزيونية للاعتماد عليها للوصول إلى مساحات واسعة من الجمهور ومن ثم تحقيق رضى المعلن الذي يبحث عن وسيلة الوصول لهذه الجماهير.
هذا يشرح بالضبط عمق المشكلة: المحتوى التلفزيوني العربي ضعيف، والجيد منه محدود جدا، والنجاح في تقديم مادة تلفزيونية مميزة وناجحة على مدار 24 ساعة يعني النظر إلى الخارج لشراء المحتوى، والاضطرار شاءت القناة أم أبت لتمرير أفكار ومضامين تنتمي للثقافة التي جاء منها المحتوى.
ليس ذلك فحسب، بل إننا في زمن التكنولوجيا والعولمة، سيمكن للجمهور الوصول للبرامج والأفلام الجذابة التي تعجبه بأي طريقة، سواء عن طريق “الساتلايت” أو عن طريق الـDVD أو حتى عن طريق الإنترنت أو الموبايل في المستقبل، وامتناع القنوات الفضائية عن البث لن يحل المشكلة على الإطلاق.
إن الواضح أن الجمهور في زمننا هذا يبحث عن المادة المميزة بدون النظر للقيم التي تحتويها، وهذا يعني أن عدم بث القنوات الفضائية العربية لهذا المحتوى لن يعالجها بل قد يزيدها تفاقما عندما يلجأ الجمهور للمادة الأصلية التي لم يتم فلترتها بأي شكل من الأشكال.
إن الذين يريدون التأثير على مضامين الإعلام التلفزيوني لديهم طريقتين لا ثالث لهما في رأيي الشخصي:
- الأولى؛ الالتفات للجمهور وإقناعه باختيار المادة التي يتناسب محتواها ومضمونها مع قيمه وثقافته.
- والثانية وهي الأهم؛ إيجاد كل الطرق والحلول التي تساهم في إنتاج برامج ودراما عربية محافظة تتناسب مع الثقافة العربية وقيمها، وتحمل الجودة النوعية التي يبحث عنها الجمهور في نفس الوقت.
أما القنوات التلفزيونية فهي مؤسسات لها ميزانيات ضخمة جدا، ولا يمكنها أن تمض بنجاح بدون إحراق مادة مميزة طوال اليوم، ولا يمكنها أن تتوقف للحظة حتى تأتي المادة العربية الجيدة التي تبذل القنوات جهودا غير عادية لإيجادها بكل أسف.
في أمريكا وأوروبا ثار الجمهور على خضوع القنوات التلفزيونية لرغبات المعلنين، فنشأت قنوات تلفزيونية ضخمة خالية من الإعلانات يمولها الجمهور بتبرعاته، حتى أن قناة PBS الأمريكية الشهيرة تقيم حملات التبرعات لكل برنامج على حدة، والبرنامج الذي لا يتبرع له الجمهور يتوقف بثه.
في بلادنا، نحتاج لمن يتبرع لتأسيس مؤسسات إنتاج عربية ناجحة ومميزة ولا تطلب الملايين ثمنا لكل عمل، ونحتاج لمن يتبرع لتأسيس كليات ومؤسسات تدريب لإخراج الكفاءات الإعلامية والإنتاجية العربية المميزة، ونحتاج لمن يتبرع لتبني مواهب الكوميديا والدراما والكتابة والإخراج والإضاءة والتصوير والمونتاج، ونحتاج لمن يتبرع لمساعدة القنوات الفضائية على بث تلك البرامج بتكلفة معقولة.
هناك فرصة للحل، ولكنها لا تقوم على إصدار البيانات الغاضبة والفتاوى النارية، بل على الكثير من الجهد والإنفاق الذي لا يعرف الملل ولا الكلل على مدى سنوات طويلة، وأنا واثق ولا شك لدي أنه عندما تتوفر المادة العربية الجيدة للبث سيقبل عليها الجمهور وتقبل عليها القنوات ويقبل عليها المعلنون، وهو ما حصل فعلا مع إنتاج كل برنامج عربي مميز.
كل هذا يحتاج أيضا لإطار مرن وحر وواضح يسمح للإبداع بالانطلاق، لأن الوضع الحالي صعب جدا، فالمفتون يتحرزون عن السماح لمعظم البرامج الموجودة، والتاريخ لا يمكن نقده لأنه سيغضب أحدا ما، والسياسة لا يمكن المساس بها حتى لا تغضب الحكومات، وقائمة المحظورات لا تزداد إلا طولا ولم تقصر يوما.
الحل يحتاج لنفض كل “الغبار”!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية