بين مطرقة «النخبة» وسندان «الاحتقار»: الشباب.. خطأ الإعلام الأكبر

من قسم شؤون إعلامية
الإثنين 20 نوفمبر 2006|

لعله غني عن الذكر أن الخطاب العربي المعاصر ينطلق دائما من أعلى إلى أسفل، أو من “ناصح” إلى “منصوح” وذلك بخلاف خطابنا التراثي الذي كان يجري على أرض سهلة متساوية من “صاحب علم” إلى “طالب علم”.

وإذا كان السلف قد انطلقوا في ذلك من تواضع وشغف بالعلم وإيمان عميق بالاجتهاد وقيمته، فإن الغربيين الذين يجري خطابهم بنفس الطريقة من “صاحب رأي” إلى “صاحب رأي” قد انطلقوا في ذلك من تقدير شديد للفرد وحريته في آرائه وسلوكياته.

لقد أثر إحساسنا الحاد بالتخلف والفوضى وتعقد المشكلات من حولنا لأن يرى كل صاحب كلمة نفسه مسئولا عن علاج هذه المشكلة، ومن هنا انتشرت “النصيحة” والصوت العالي في خطابنا، وأعطى هذا للنخبة امتيازهم لكونهم يملكون مؤهلات “رفع الصوت”، بينما بقي الشباب في الطرف الآخر ملامون على “تقصيرهم” وخاصة وهم “أمل الأمة وعمادها”، وصار الشباب _ رجالا ونساء _ الهدف الذي يرمي كل الناصحين _ مهما كانت اتجاهاتهم وتياراتهم _ إليه سهامهم.

لقد نسي هؤلاء الناصحون أنهم كانوا يوما شبابا يمارس نفس “التقصير”، وأن الجيل الجديد يدفع ثمن أخطائهم وأخطاء الأجيال التي قبلهم، ونسي هؤلاء الناصحون الضغط المسلط على هؤلاء الشباب الذين يحاولون إدارة حياتهم وسط تراكم الأهداف والطموحات والأحلام والضغوط الاجتماعية، ليضيفوا لهذه الضغوط ضغط النصائح التي لا تنتهي وضغط الأيديولوجيات التي لا تبقي ولا تذر.

هذا في رأيي يشرح الفجوة التي وجدت دائما بين الإعلام العربي وبين الشباب، لأن الإعلام كان دائما المركبة التي يحملها “النخبة” نصائحهم ومثالياتهم، وما لم ينقاد الشاب أو الشابة وراء تلك النصائح ويصبح مرآة لما تريده النخبة _ وهذا ما يحصل في كثير من الأحيان _ فهو مرفوض ومستهتر ولا يتحمل المسؤولية ولا يستحق التعاطف ولا حل معه إلا المزيد من النصح أو “آخر الدواء الكي”.

إن الشعور الاجتماعي العام بأن الشباب يجب أن “ينقاد” ولا “يقود”، أضعف من وتيرة التجديد الاجتماعي والثقافي والإبداعي وقلل من عدد الشباب الذين يؤثرون بشكل واضح في مجتمعاتهم العربية، وبينما نتحدث دائما كيف قاد أسامة بن زيد، رضي الله عنه، جيشا إسلاميا وعمره لا يتجاوز 19 عاما، فإن مجتمعنا الحالي لا يرضى من شاب في الثلاثين إلا التواضع والتعلم من تجربة الكبار ويؤمن بشكل غريب بأن صغير السن ضعيف الخبرة قليل الحكمة يملؤه الطيش ولا “يملؤ العين”.

كل هذا ساهم في أن يكون الإعلام العربي الموجه للشباب واحد من ثلاثة تيارات رئيسية لا تخرج عن النظرية نفسها وإن اختلفت زاوية الانطلاق:

  • إعلام يعامل الشباب بالنصح الدائم في كل شؤون دنياه، حيث يجلس كتاب وصحفيون علا الشيب رؤوسهم يتذكرون أيام شبابهم وينظرون للجيل الجديد بأسف ويكتبون ما شاء الله لهم أن يكتبوا.
  • إعلام يقوده الشباب، ويغلب عليه التيار الديني، والعمل الدؤوب على تغيير الشباب للأفضل دينيا، ولكنه في نفس الوقت يتناسى الاهتمامات الدنيوية كما يصر على معاملة الشباب وكأنهم على شفا جرف هار من الانحراف والعصيان، ولا بد من حمايتهم من كل ما يمكن أن يؤدي لـ”السقوط الأخير”.
  • إعلام تجاري يريد أن يبيع، ولأنه يظن أن الشباب يعشق النظرة المحرمة واللحظة الآثمة ويهوى الطيش وكل ما هو تافه على وجه الأرض، فهو يعامل الشباب بهذا الشكل ويتفنن في تقديم ذلك، دون أي تقدير للشباب وإمكانياته وكرامته وطموحاته ولما يمكن أن يكون عليه، ويزيد بذلك الضغوط على الشباب الذي وجد نفسه محاصرا بمن ينصحه وبمن يريد غوايته.

قد نسأل ما هو البديل، ولا أحد يستطيع الإدعاء بأن الإجابة سهلة وأنها مجرد صف عبارات، ولكن المؤكد أن الجهود التي بذلت للإجابة على السؤال محدودة وضعيفة، ولا تستطيع الخروج عن نظرية “تفاهة الشباب وغبائهم”.

إن المأساة في كل هذا أن الشباب صدقوا نصائح الآباء والإعلاميين وفقدوا الثقة بأنفسهم وجيلهم وصاروا دائما في معاناة نفسية مع أنفسهم “الضائعة” باحثين عن “الخط المستقيم” أو عن “اللذة” مع الكثير من عبارات اليأس التي يرددونها دون وعي.

البديل هو إعلام يتمحور حول الإيمان بالشباب كعنصر فاعل يقود المجتمع وينطلق به، يخوض التحديات التي تتكسر على صدره المليء بالحيوية والتفاؤل.

البديل إعلام يؤمن بالشباب وأفكارهم ويراها الأصل، بينما تصبح أفكار الجيل السابق جزءا من المرجعية والتاريخ، وإعلام يحلق مع الشباب وطموحاتهم دون أن يضع عليهم القيود والضغوط والحواجز، وإعلام يرى الشباب المنحرف استثناء والشباب الجاد الذكي المنطلق أصلا، له يتجه الخطاب ومن بين أصابعه تنطلق الكلمات.

البديل إعلام يؤمن بالشباب ولا يراهم عبئا على المجتمع، شباب يمكنه أن يحفر الصخر ليحصل على لقمة عيشه أو ليحقق أحلامه.

ولعل مما يثير الغضب دائما تلك الصحف التي تكتب عن “البطالة” مصورة الشباب وكأنهم عبارة عن جذوع خالية تجر أذيالها حاملة “الملف العلاقي” من شركة إلى أخرى التي لا تفتأ أن تطردهم وتغلق أبوابها دونهم بحجج واهية.

تلك الصحف تنسى أنها هي التي أوهمت الشباب أن الطرق كلها مغلقة وأنه لا مفر إلا من حمل الملف العلاقي وطرق الأبواب، ولم تعلمهم أن الحياة فيها فرص لا تنتهي وينابيع عديدة جدا يتخير الشاب من أيها يشرب، وتلك الصحف تنسى أن هؤلاء استثناء من بين مئات الآلاف من الشباب الذين اخترقوا كل الأسوار وأثبتوا مكانتهم وكانوا على مستوى التحدي.

هذا كله ونحن لم نتحدث بعد عن المرأة الشابة، لأن إعلامنا وخطابنا في العالم العربي كله لا يكاد يعترف بالشابات، فهن في نظر الإعلام جزء من قطاع “المرأة” اللاتي يبحثن عن الزوج والأولاد، ولا هم لهن إلا اللهاث خلف الموضة وآخر المنتجات، ويتميزن في الغالب بالغباء والإلحاح والسفاهة، وهن في نظر الإعلام إما فتيات ينتظرون الزواج، أو متزوجات مقصرات في حق أزواجهن، أو مطلقات وأرامل ينتظرن لحظة الزواج ويعانين بسبب عدم وجود الزوج.

وأنا هنا لا أتحدث عن قضية محورية الرجل في حياة المرأة كما يصورها الإعلام العربي، فهذه لها حديث آخر، ولكن القضية أن “تربية” المرأة على أنه لا يمكن أن يكون لها طموحات وأحلام ذات هدف سام، وأنها لا يمكن أن تتجاوز الأسوار، بل يفضل ألا تتجاوز الأسوار، لأنها ستجذب الشباب، وهم في الغالب من التافهين، وستنشأ خيوط الفتن، وتفقد الشابة احترامها، ويهرب الشاب بفعلته.

هذه الصورة النمطية القاسية تضع المرأة في ركن ضيق، والمأساة أن الشابات في العالم العربي صدقن الإعلام أيضا وبدأن يتشكلن تدريجيا حسب هذه الصورة السطحية والمدمرة في آن واحد.

وتؤكد نظرية “ترتيب الأولويات” Agenda Setting، والتي تدعمها أكثر من 500 دراسة علمية خلال ثلاثة عقود من الزمن، بأن الإعلام يرتب أولويات الجمهور من حيث أولويات القضايا “المستوى الأول” ومن حيث وجهة النظر وجزئيات القضايا “المستوى الثاني”.

وهذه النظرية تدعمها نظريتا “الإبراز” Priming و”التأطير” Framing، وهي بمجموعها تؤكد بشكل يصعب التشكيك فيه أن الإعلام يحدد الأولويات ويرسم الصور الذهنية ويأطر وجهات النظر، وأن الناس عبر الزمن تتشرب هذه الرؤى بشكل كبير، ويصبح كثير منهم أسير لها في تفكيره وقراراته.

إن هذه النظريات تؤكد خطورة هذه الرؤى الإعلامية الخاطئة في بناء مجتمع لا يستفيد من الشباب، وخلق أجيال تتوالى في نفس الإطار.

إن الحل لهذه المشكلات أعلاه في رأيي قد يبدأ من الشباب أنفسهم، الذين آن لهم أن يستيقظوا من صدمة هجوم المجتمع عليهم، ويقرروا أخذ زمام الأمور بيديهم، وإعلان “الثورة” على كل من يحاول إقفال الأبواب في وجوههم، وأن يسحبوا الكراسي من تحت “غير الشباب” الذين اضطهدوهم ويعلنوا أهليتهم ليقودوا بدلا من أن يقادوا.

أما إذا كنت أخي القارئ غير مقتنع بإمكانية ذلك، فربما كان عليك قراءة هذا المقال مرة أخرى لتكشف ما أخفيته بين السطور!!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية