انحياز الصحفيين: «الجمهور عايز كده»

من قسم شؤون إعلامية
الإثنين 25 ديسمبر 2006|

أحد أبرز الاعتراضات التي تواجه الصحفيين العرب بشكل مستمر من الجمهور تتمثل في انزعاج البعض من نشر خبر ما لأن الخبر يضر بشكل أو بآخر بواحدة من القضايا الهامة.

في العالم العربي هناك تقييم مستمر للدوافع والمحفزات التي جعلت صحفيا ما ينشر خبرا بعينه، وكأن الافتراض الأساسي هو أن الصحفي لا ينشر خبرا أو معلومة إلا لأجندة خفية يحملها.

هناك دائما حديث عن الأخبار التي “تشغل الأمة عن أهدافها”، والأخبار التي “تشوه الصورة الناصعة للمجتمع” والأخبار التي “تسيء” لجهة معينة، والأخبار التي “تدمر الأخلاق” والأخبار التي تدعم وجهة نظر معينة لا يجوز دعمها.

بالمقابل، هناك مطالبة بنشر الأخبار التي يراها بعض القراء إيجابية وتخدم الأهداف التي يؤمنون بها.

بل إن من الطريف، أنني في أحد المرات لقيت الاعتراض على خبر منشور من قبل مثقفين يرون فيها إضعافا للمطالبة بحقوق المرأة وتطوير وضعها العام، وفي نفس الوقت، جاء الاعتراض من طرف الذين يحاربون تغيير وضع المرأة، وكلا الجهتين توافق على أن مضمون الخبر صحيح، ولكن الاعتراض هو على سبب النشر وتوقيته وأثره.

هذا الضغط المستمر على الإعلاميين العرب من قبل الجمهور المهووس بتقييم الآثار قريبة وبعيدة المدى للنشر تجعلهم يشعرون بأنهم بحاجة لأجندة يحددون من خلالها أسباب النشر، وينضمون فيها إلى فريق ما من الفرق الضاغطة لصالح أحد الاتجاهات الثقافية والفكرية، ويتخلون فيها عن دورهم الحقيقي كناقلين “موضوعيين” للمعلومة، والذين يفترض فيهم ألا يتدخلوا في ما ينشرون، حتى يكونوا إعلاميين أمناء لا يحرفون المعلومة بناء على أهدافهم ورغباتهم الشخصية.

لكن اندفاع الإعلاميين في العالم العربي لتلبية هذه التوقعات الجماهيرية بممارسة الرقابة على الأخبار سبب في الحقيقة ضعفا لمصداقيتها وشكا دائما في دوافع النشر، وينطبق هذا على الأخبار السياسية والمحلية والاجتماعية والدينية والرياضية والاقتصادية وغيرها.

الإعلامي، بطبيعته البشرية، يسره طبعا أن يجد الفرصة لممارسة الرقابة واستغلال القوة الإعلامية في التأثير على الناس، ولكن الغريب أن الجمهور هو الذي يطالب بذلك، دون أن يدرك أنه في اللحظة التي يسمح فيها بالرقابة الذاتية، فإنه يخاطر بأن من يمارس الرقابة قد لا يتفق معه في الرأي أحيانا.

على سبيل المثال، كان “الإسلاميون” يطالبون دائما بمنع نشر معلومات معينة لأنها “تنشر الرذيلة” أو تدعم الآخر، دون أن يأخذوا في الاعتبار أن نشر ثقافة فلترة الأخبار أمر سلبي قد يتولاه يوميا من لا يتفق معهم في الأهداف والمعطيات.

نحن نحتاج لإعلام يؤمن بالحقيقة وشفافية النشر للمعلومة الصادقة والرأي الموضوعي بعيدا عن تقييم التأثير.

قد تكون أحد ملايين الناس في العالم العربي الذين يؤمنون بأن الموضوعية مستحيلة، وهذا صحيح، فالقيم لا يمكن تحقيقها بشكل مطلق، لا يمكن أن تكون لديك عدالة مطلقة، أو صدق مطلق، ولكن يمكن أن يكون عندك عدالة نسبية، وموضوعية نسبية، أي أنك تسعى دائما للتحسين المستمر على طريق السعي لتحقيق الموضوعية. 

لقد عرف المتخصصون الموضوعية “تعريفا واقعيا” من خلال ربطها بـ”العدالة” و”الدقة”، وبنوا كل أسس التغطية الصحفية على هذين الأساسين، العدالة بين مختلف الجهات التي يتحدث عنها الخبر بحيث يكون رأي كل جهة ممثلا في الخبر، والدقة في نقل المعلومات، مع ابتعاد الصحفي الكامل _ قدر الممكن بشريا ومهنيا _ عن وضع رأيه أو عن أخذ اتجاه معين في الصحافة.

لا شك أن للإعلام رسالة، وأن هناك قيم معينة عامة يجب أن يلتزم بها، وأن هناك أسس لاختيار ما ينشر وما لا ينشر، ولكنه من الخطأ أن يترك تحديد هذه القيم والأسس لكل إعلامي يختار منها ما يوافق هواه، هذه القيم يجب أن تحددها قوانين الدول والتشريعات العامة والمواثيق المهنية الدقيقة، وليست الفضفاضة التي تبدأ بمادة تطالب الإعلام بمحاربة الصهيونية والامبريالية والاشتراكية والاقطاعية والتطرف وكل ما يمكن محاربته على وجه الأرض.

في هذه الحالة، لن يتهم أحد الإعلاميين في مصداقيتهم وشرفهم المهني لأنهم يطبقون القوانين، ولن يحدد كل شخص في الوسط الإعلامي كيف يرسم للناس طريق حياتهم وفي ماذا سيفكرون بناء على أجندته الفكرية، ولن يحجب البعض معلومات معينة لأنها لا تتناسب مع مزاجهم، حتى لو كانت صحيحة ودقيقة.

لدينا “حارس بوابة” مزاجي يفتقد الخلق والنظام، والجمهور هو السبب!!

* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية